يقول صاحبي في ليلة من ليالي الأهوار : لو أتت داليدا الى هنا في هذه الليلة السومرية المقمرة ، وغنت بفرنسية فصيحة ، أغنية عن غرام البلد في مناقير العصافير ، لصار للقصب حماسا ذكوريا وانثويا وعانق بعضه البعض في غرام عجيب.
ضحكنا ، وقال أحدنا : من أتى بسانت لوران لقرى المعدان ، أنها مسافة عطارد عن شخير المعدان فوق السوابيط.
تلك المسافة كانت تشد فينا الف حنين ، المكان وخياله ، والماء وسفره الازلي ، من هنا ، الى القرنة ، ومن القرنة الى الخليج ، ومن الخليج الى مسقط ، ومن مسقط الى دلهي ، ومن دلهي الى خصر وصوت الممثلة الهندية فاجنتي مالا التي كانت تسحرنا بأفلامها في تلك الأيام.
يقول صاحبي : وتلك هي سفرة نوح الازلية من هذا المكان وذهب بها الى تلك الأمكنة . والتي يعيد عطرها وصداها صوت الرجل صاحب المشحوف والذي يطرب اسمعانا في كل ليلة وهو آت من ليلة صيد بالفالة مهتديا بضوء القمر ويغني : مشحوفنة طر الهور ...
هو يكرر ذات الحنين الذي تكرره داليدا في اغانيها الاسكندرانية المدافة بلهجة الجنوب الفرنسي .ولهذا فلربما نوح رسى بمرسيليا أو كان أو ربما واحد من ركاب سفينته وصل الى هناك.
ضحكنا ، وقلنا : يارجل الصياد الطيب يطر الهور بأغنيته الجميلة .وأنت تطر رؤوسنا بداليدا وافتراضاتكَ الخرافية.
قال : بفضل تلك الافتراضات ولدت الاساطير ، وصرنا محج لرجال الاثار والمستشرقين.
ذات يوم جاء صديق آخر ليهمس في إذني : المطربة الفرنسية ــ الاسكندرانية داليدا ماتت منتحرة ، هل نخبر صديقنا ؟
قلت : لاتخبره فلربما ينفذ الشوق فيه ويتحول الحزن عنده الى صمت ودمعة ، فدعنا نبقي الخبر سرا لنتمتع بخياله وهو الذي يريد ان يُلبسَ المطربة الراحلة ثوبا ريفياً ويضع خزامة في طرف انفها ويرسم وشماً على حنكها ، ويركب معها المشحوف ويأخذها الى المكان الذي يتصيد فيه المعيدي ( تعبان ) ويسمعها نشيجه اليومي ( مشحوفنه طر الهور ) لتحفظها هي وتغنيها له . مرة في الفرنسية ومرة في العربية.
قال صديقي : الغرام المجنون يخلقه همس الصوت أولا ، تلك بدايات روميو مع جوليت وقيس مع ليلى.
قلت : ليس بهذا الحجم .صديقنا يحب صوت داليدا ويعرف أنها بعيدة عنه بآلاف الفراسخ وليست في متناول اليد.
لكنه عرف بموت مطربته المدللة من سماعه اليومي لاذاعة القاهرة .
تخيلناه سيبكي ، وسيندب حظه انها سوف لن توقعَ له اوتغرافا لصورتها معه يوم يزور باريس ويحضر واحدة من حفلاتها الصيفية ، ولكنه بقي من غير مشاعر حزن تسكن وجه ، عدا صمته وتكرار عبارة ليرحمها الله.
استغربت أنه لم يعلق بشيء . ولم نسأله ولم نواسيه ، عدا أننا لم نكرر افتراضات انتحار داليدا أمامه .
لكن احدنا كان كثير الكلام والملاطفة وهو من كارهي الغناء الاجنبي قال : انتحرت لأن اخينا ( فلان ) لم يفْ بوعده ويجلبها الى قرية ( المحاريث ) ويعلق في ( خشمها ) خزامة.
سمعه ونظر اليه وصمت .
في اليوم الثاني كرر ذات الدعابة التي وجدناها غاية في الفطارية والسذاجة. وعاد في الليلة الثالثة يكررها امامنا .
عندها انتض صديقنا الذي كان يعشق داليدا وصوتها ولكمهُ على وحهه .
انتفخ وجه صديقنا الساذج .وقام ليثأر لنفسه .فأبتدا عراك ليلي .استغرب له معدان القرية ، فلم يتعودوا في حياتهم ان يروا او يسمعوا شجارا بين معلمي المدرسة.
الغريب في هذا ، أن الشجار بين الصديقين كان في اشده في التلاكم .عندما مر الصياد بزورقه وهو يغني اغنيته :مشحوفنه طر الهور.
عندها قال الذي كتم حزنه من اجل داليدا في قلبه : اكراما لهذا الصوت ، سأتوقف عن لكمك ايها الفطير.
مقالات اخرى للكاتب