الخلاف في الرأي ظاهرة حاضرة الوجود في كل زمان ومكان ، تختلف نتائج معطياتها باختلاف العديد من العوامل والظروف التي تتأثر بها بفعل التكوين الاجتماعي الذي تنطلق منه ، والذي تتصدره درجة الوعي الثقافي التي تعبر عن حالة النضج التي يتمتع بها المجتمع في كل حلقة من حلقاته بدءاً من الصيغ النظامية التي تتمثل بالحياة الأسرية صعوداً الى التشكيلات المجتمعية والمؤسساتية المدنية والأكاديمية وصولاً الى المواقع السياسية العليا ومراكز اتخاذ القرار ، وغير النظامية التي تخضع لتأثير القوى الضاغطة غير الرسمية من الأحزاب والتكتلات والتجمعات العشائرية والقبلية والدينية التي تتقاذفها المصالح الفئوية والمنافع الشخصية والنوازع التسلطية التي تنحى بمجموعها باتجاهات متباينة ومختلفة تكون مرتعاً خصباً للتناحر والاختلاف الذي يؤدي في أسوأ احتمالاته الى الصدام والفرقة والتشتت وترسيخ مفاهيم العداء عبر الأجيال المتلاحقة .
ولاشك بأن الخلاف وهو أمر واقع ، والذي ينظر اليه المثقفون على انه حالة صحية باعتباره معالجة موضوعية جماعية وتفاعلاً فكرياً لآراء مطروحة أو لمعتقدات يؤمن بها البعض أو مقترحات يتقدم بها من يريد حلاً أو معالجة لمشكلة أو مسألة تحتاج الى إلقاء الضوء عليها بهدف الوصول الى الحل أو العلاج أو الرأي الافضل وعدم تطويقها بظلامية الرأي المتفرد الذي يفتقر الى التشاور واحتمالات سوء التقدير وعدم الموسوعية في النظر الى الظواهر .
ولهذا فقد بات من المؤكد ضرورة اللجوء الى الرأي الجماعي الذي تتبلور فيه الأفكار والمفاهيم والآراء عبر الحوار والمناقشات في إطار الشراكة وليس التناحر أو السعي لخذلان الرأي الآخر . وعندئذ تكون الحاجة ماسّة وأساسية من أجل الوصول الى الرأي الافضل أو القرار الصحيح عبر الحوار الذي يؤمن بثقافة الاستماع .. فالاستماع الى الرأي الآخر وتبادل المتكلمين لفرص التحدث وإبداء الرأي والاستعداد لسماع مختلف الآراء دون اللجوء الى التقليل من شأنها أو مقاطعتها إنما هو تعبير عن الايمان بثقافة الاستماع واحترام اصول الحوار والعقلانية في جعل الخلاف طريقاً للتوافق .
ويرى المتتبع بكل وضوح الفرق الكبير في أساليب الحوار والنقاش بين الفرقاء في اطار الاستماع الذي يبديه كل طرف من اطراف الحوار تجاه الطرف الآخر ، والذي يميز الذين يجيدون لغة الحوار ويتمتعون بثقافة الاستماع عمن سواهم ممن يحتدم النقاش بينهم ليتحول الى مقاطعة المتحدث وعدم فسح المجال له بالكلام وعدم الرغبة في الاستماع الى ما يقول ، ومن المؤسف بأن هذه الظواهر كثيراً ما تحصل في أوساط المتعلمين وأصحاب المناصب الوظيفية والسياسية والادارية .. ورؤساء العمل الذين لا يفسحون المجال لمرؤوسيهم بالكلام والتعرف على ما يحملونه من معلومات غالباً ما تكون قريبة الى تفاصيل ومشاكل العمل لقربهم واندماجهم ومعاناتهم من تلك المشاكل .. ويتأثر البعض ممن يجلس على كرسي المسؤولية بالكلام والتوجيه من دون سماع مرؤوسيه أو من يعمل بمعيته مما يؤدي الى إغفال الكثير من الحقائق والمعلومات التي لم يعط المجال لنفسه فرصة الاستماع إليها والتعرف على الحقائق التي يمتلكها مرؤوسيه .. بل وان البعض منهم يعطون توجيهات لمرؤوسيهم من دون أن يستمعوا الى آرائهم ومقترحاتهم أو تصحيح تلك التوجيهات وإغنائها بملاحظات وأفكار إيجابية .
ولا شك بأن عدم الاستماع في اطار العمل الوظيفي لمناقشات اعضاء اللجان والتعليق الايجابي من قبل المرؤوسين وتصحيح المعلومة التي يطرحها الاداري المسؤول بشكل ضياع فرصة على متخذ القرار للحصول على معلومات ومعارف يكون بأمس الحاجة لها .. كما انها في حياتنا العامة تؤدي الى تحول الخلاف الى اختلاف يصعب تجاوزه. وتقف ثقافة الاستماع في صدارة حزمة الثقافات التي يجب أن يتمتع بها المجتمع لأنها البوابة الرئيسية لفهم الأمور بشكلها الصحيح وبناء الثقة بين الافراد والمجموعات خاصة وان الوضع السياسي والاجتماعي في البلد في أعقاب 2003 أوجد ظروفاً غاية في التعقيد خلقت محاور ومسارات ومساحات واسعة جداً للخلاف الذي لا يجد له حلولاً إلا بالاستماع الى الرأي الآخر والفهم المتبادل وإشاعة الحكمة في الاستنتاج واعتماد اسلوب الاستماع وسيلة للتعلم ، فمن لا يستمع لا يتعلم .
مقالات اخرى للكاتب