ذكرى ثورة تموز في العام 1958 تمر علينا هذه الأيام. وكعادة العراقيين في مثل هذه المناسبات يكون الاختلاف هاجس الجميع، وكل ينطلق من مقدماته الفكرية والوجدانية في التعامل مع هذا الحدث، الذي غيّر، أو انعطف بتاريخ العراق السياسي انعطافة بليغة، ستلقي بظلالها على العقود التي تلت ذلك.
بالنسبة لي: أكره بشكل كامل حكم العسكر. أكره تدخلهم في السياسة. وأعتقد أن مكانهم الطبيعي، والحقيقي، هو في الثكنات، وليس في مقعد رئيس الجمهورية أو كرسي رئيس الوزراء. كما أنني أعتقد أن دخول العسكر إلى مدينة يعني إفسادها. هذا ما حدث مع عبد الكريم قاسم. دخوله السياسة العراقية، فتح الباب لكل ذي طموح، من العسكر، أن ينقلب على السلطة، غير عابئ بما يخلفه انقلابه من دم وعذابات.
سيقول قارئ: القصة لم تبدأ مع قاسم، وعليّ تأكيد ذلك. نعم، هنالك مجازر عسكرية ومحاولة انقلاب في الثلاينيات، ثم محاولة العقداء الأربعة، ولكن مثل هذه المحاولات لم تتجذر مثلما تجذرت محاولة قاسم التي أدت لولادة الجمهورية الأولى في العراق.
لست معنياً بتبيان حسنات، أو سيئآت، الحكم الملكي في هذه الوقفة، ولكن اهتمامي ينصب على ما تلى ذلك. لقد فتحت أبواب الجحيم العراقية بدخول العسكر إلى السياسة، وشهدنا عشرات المجازر التي كان سببها الرئيس هو هذا. ثم دخلنا في عصر القرابات، أبن عمك، وابن خالك.. وتطور الأمر لأبن قريتك وأبن عشيرتك. بدأت الكفاءات تتنحى وتقصى، وبدأ رجال غليظون يتصدرون الواجهات، يرتدون الملابس العسكرية، ويضعون رتباً عديدة على أكتافهم، واختفى شيئاً فشيئاً منظر المدنيين والأفندية، ذلك المنظر الذي حرص العهد الملكي على تكريسه، كما اختفت النساء من واجهة المشهد، وتراجع لمستوى مخيف حضور الأتيكيت، ليس في السياسة فقط، وإنما في مختلف مفاصل الدولة.
وتقرأ مذكرات الساسة العراقيين منذ منتصف الأربعينيات، ووصولاً إلى اليوم، فتجد مفارقات غريبة عجيبة في هذا الخصوص. واحد من أقسى المشاهد التي بقيت عالقة في ذهني سردها البعثي السابق خالد علي الصالح في كتابه "على طريق النوايا الطيبة"، والذي يذكر فيه كيف صادف مؤسس البعث العراقي في أحد السجون، مطلع السبعينيات، وهو يدفع بعربة النفايات، فيما يشتمه سجانون انتموا للحزب تواً. مثل هذه القصة، وغيرها بالمئات، سببها ليس حزب البعث وقسوته، فالحزب الشيوعي هو الآخر كان قاسياً، وقل الأمر نفسه على الأحزاب الإسلامية، ولكن السبب الرئيس هو في حكم العسكر، ذلك الحكم الذي تراجع فيه الدور المستقل للقضاء، وما يتفرع عنه من مراكز شرطة ومراكز احتجاز وتحقيق... ألخ.
هل أقسو على الزعيم وأنا أحمله مسؤوليات الانحطاط الذي شهدته العقود السابقة؟ لا بأس، فالناس رأته في القمر، مثلما رأت صدام حسين في القمر أيضاً، ثم أنه قتل ولم يكن يملك ديناراً في جيبه، وكان يتفقد مخابز الصمون، وينام على الأرض، ولو أعدنا شريط صدام حسين لوجدناه يفعل الأشياء ذاتها، في بعض مراحله، على أن قساوة هذا الأخير أشد. وأعتقد، أن فترة حكمه الطويلة هي السبب، وأعتقد ايضاً، أن قاسم لو حكم العراق لثلاثة عقود متتالية لرأينا منه أشياء لا تختلف كثيراً عمن لحقه.
مشاعري الحقيقية: ليست مع قاسم، ولا ثورته، دون أن يعني ذلك أنني من "رجال العهد البائد"، أو من دعاة الملكية. أريد لبلادي أن تكون دولة مدنية. فقط.
مقالات اخرى للكاتب