الإمبريالية الاقتصادية للولايات المتحدة
شكل احتلال العراق تجربة غير مسبوقة للإمبراطورية الأمريكية .فعلى خلاف الإمبراطوريات الاستعمارية الأوربية ،كالحكم الاستعماري الفرنسي والبريطاني لمنطقة الشرق الأوسط في النصف الأول من القرن العشرين ،قامت الإمبراطورية الأمريكية الى حد كبير على الهيمنة الاقتصادية أكثر منها على الإدارة المباشرة للمستعمرات .وتتضمن الهيمنة الاقتصادية إعادة هيكلة اقتصاديات البلدان بحيث تتمكن الولايات المتحدة من استيراد المواد الأولية التي تحتاجها من هذه البلدان بأسعار زهيدة ،وفي النفس الوقت تجعل هذة البلدان معتمدة في وارداتها على منتجات الشركات الأمريكية المرتفعة الأسعار. ولتحقيق هذه الهيمنة ، يستحسن أن تكون اقتصاديات هذه البلدان بقدر الإمكان ملكية خاصة ،ومن الأفضل لشركات أمريكية .وهكذا ،لن يكون بمقدور حكومات هذه البلدان الضعيفة فرض الضرائب على نشاطات الشركات المتعددة الجنسية في بلدانها أو تنظيم أعمالها ،ويصبح من الممكن رشوة هذه الحكومات أو إغوائها بضرورة دعم مصالح الولايات المتحدة على الصعيد الدولي .إن الهيمنة الاقتصادية أقل كلفة وأسهل من الحكم المباشر المفروض بالقوى العسكرية ،كما أنها غير بادية للعيان كالحكم المباشر .ولهذا ،فمن الواضح أن مصالح الولايات المتحدة تستدعي إنهاء احتلالها المكلف والدموي للعراق بالسرعة الممكنة .فالإحتلال العسكري ضرورة آنية لحين إعادة هيكلة الاقتصاد العراقي وضمان تثبيت الاحتلال الاقتصادي لأمد طويل . لقد كشفت كتابات المحافظين الجدد عن أجندة الولايات المتحدة في هذا المجال ،كما تجسدت هذه الأجندة في القوانين العديدة التي أصدرها بول بريمر في محاولة لإرسال اقتصاد يخدم مصالح الولايات المتحدة ،منتهكاً بذلك اتفاقيات جنيف ولاهاي .وبالطبع حالت مقاومة أعضاء الاتحاد لقوانيين وتعليمات بريمر المتعلقة بالرواتب ،بالإضافة إلى معارضة أعضاء مجلس الحكم ،من تنفيذ بعض هذه الأوامر .والمؤشر الآخر على أجندة الولايات المتحدة هو حثها العراق على توقيع اتفاقية نادي باريس (وسأتطرق لهذا لاحقاً)فبل شهرين من انتخابات كانون الثاني ،إذ تخوفتالولايات المتحدة ان تأتي الانتخابات بحكومة قد تكون أقل استعداداً للتوقيع وأقل قبولا للأجندة الأمريكية الاقتصادية . وتبين تجارب الشعوب في أمريكا اللاتينية وإفريقيا وأوروبا الشرقية وأسيا خلال نصف قرن بوضوح أساليب الامبريالية الاقتصادية وطرق عملها .فالأدوات المستخدمة باستمرار هي الدين الخارجي وصندوق النقد الدولي .وفي هذه الورقة ،سأبين ما تعنيه هذه الأدوات للعراق وما يمكن للعراقيين فعله للدفاع عن مصالحهم الوطنية .
صندوق النقد الدولي
نم تأسيس صندوق النقد الدولي ،والمؤسسة الشقيقة له البنك الدولي ،بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في مؤتمر عقد في برتون وود في الولايات المتحدة .وفي هذا الاجتماع ،تم ايضاً وضع التصور لمنظمة التجارة الدولية التي أسست لاحقاً .وتم تأسيس كلا من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وفقاً لنموذج المؤسسات المساهمة .فمعظم البلدان في العلم تملك حصة صغيرة في المؤسستين ،وتملك الولايات المتحدة 17% من الأسهم ،ولذا يمكنها أن تتحكم بشكل كبير ومباشر في سياسات هاتين المؤسستين .وتتمتع الولايات المتحدة بنفوذ كبير داخل صندوق النقد الدولي ،نظراًلوقوع مركزه الرئيسي في واشنطون على بعد بضعة مئات من الأمتار من البيت الأبيض ،ولأن معظم موظفيه من المناصرين الأشداء لمبادئ الاقتصاد الحر ،هذا الاقتصاد الذي يعمل بشكل عام لصالح الدولة الغنية ،وخاصة الولايات المتحدة .إن الهدف الأصلي من إنشاء صندوق النقد الدولي كان معقولا الى حد ما ،إذ كان من المفترض أن يكون الصندوق آخر من تلجأ إليه الدول التي تعاني من مشاكل السيولة النقدية على المدى القصير طلباً للقروض .إلا أنه سرعان ما وسع الصندوق مجال عمله ليصبح سلطة تكرس سياسة اقتصادية بعينها .وترتكز هذه السياسة على سلة من الإجراءات تتمثل في الخصخصة وازالة القيود المفروضة على التجارة .وتناسب هذه إجراءات مصالح الحكومة والشركات الأمريكية ،ونادراً ما تكون لصالح رفاه شعوب البلدان التي تطبقها ،أوحتى تنمية هذه البلدان .فلو كان صندوق النقد الدولي مؤسسة لتقديم المشورة فحسب لكان بإمكان البلدان أن تتجاهل توصياته .إلا أن الصندوق يملك السلطة لفرض سياساته الاقتصادية من خلال الطلب من البلدان التي تحتاج إلى قروض من الصندوق أو من البنك الدولي (الذي يرأسه الآن بول ولفوفتز ،نائب وزير الدفاع السابق ومهندس الحرب على العراق )أن تتقيد بتوصياته الاقتصادية حتى تتأهل للأستفادة من القروض .والعراق اليوم مؤهل وفقاً لبرنامج الصندوق "المساعدات الطارئة لحالات ما بعد النزاع "(EPCA )،وقد تم الطلب منه تنفيذ سياسات بعينها . بالإضافة إلى هذا ،تضغط الولايات المتحدة وغيرها من الحكومات الغربية على البلدان لتقوم بتنفيذ توصيات الصندوق .ويقوم نادي باريس ،وهو مؤسسة واسعة النفوذ تضم حوالي 20 من أكبر البلدان الدائنة ،بالطلب من البلدان التي تحتاج إلى الإعفاء من الديون إلى تطبيق توصيات الصندوق لتصبح مؤهلة لطلب الإعفاء .
أمثلة على استخدام الدين لفرض الخصخصة
تخدم صندوق النقد الدولي وحكومة الولايات المتحدة ،كوسيلة لفرض سياسة الخصخصة وغيره من الإصلاحات الاقتصادية في العديد من بلدان العالم ،وسأورد هنا بعض الأمثلة :
استدانت الحكومة العسكرية التي حكمت الأرجنتين في السبعينيات من القرن الماضي مبالغ كبيرة لتتمكن من تمويل أدواتها القمعية .وفي العقدين الأخيرين ،تمت مطالبة الحكومات الديمقراطية في الأرجنتين بإلحاح بتسديد هذه الديون الكبيرة ،وهي ثاني أعلى ديون بعد ديون العراق .وقد عملت هذه الحكومات بجهد لخدمة هذه الديون فاعتمدت سياسة إعادة جدولة الديون القائمة والحصول على قروض جديدة من صندوق النقد الدولي لتمويل خدمة الديون القديمة .ونتيجة لتنفيذها مطالب صندوق النقد الدولي ،أصبحت الأرجنتين الآن أكثر بلدان العالم خصخصة لاقتصادها .فمثلا ،استولت الشركات الأجنبية على معظم البنوك الوطنية الأرجنتينية .وقد ترددت البنوك الأجنبية في الاستيلاء على المؤسسات المتوسطة والصغيرة الحجم .وتضمنت مطالب الصندوق ايضاً تقليص الصرف الحكومي على الخدمات وزيادة الضرائب .لقد أدت هذه السياسات مجتمعة إلى زيادة البطالة لتصل إلى 30% ،وإلى ركود اقتصادي بدءً من عام 1998 ،وإلى الأنهيار الاقتصادي في عام 2002.بلغت ديون نيجيريا الخارجية 30 بليون دولار ،وقد تراكمت هذه الديون أثناء فترة حكم الديكتاتور جنرال اباشا ،الذي بدد وسرق معظم واردات البلد من البترول .وعندما أعيد الحكم المدني في عام 1999 في ظل حكم الرئيس أباسانجو ،أصرت الولايات المتحدة وغيرها من الدائنين من نادي باريس على وجوب الخصخصة مقابل إعادة جدولة ديون جنرال أباشا .وتضمنت لائحة الصندوق للصناعات المطلوب خصخصتها :الاتصالات والكهرباء (وهي ثاني وثالث أكبر شركات تملكها الحكومة )ومصافي البترول الأربع التي تملكها شركة النفط الوطنية .وتضمنت أيضاً شركات حكومية صغيرة مثل الفنادق ،ومعامل الحديد ،وشركات صناعة الورق ،وشركات تجميع السيارات ،وشركة الاسمنت ومصنع السكر وعندما حاول البرلمان النيجيري الوقوف في وجه خصخصة شركة الطيران النيجيرية في عام 2001،هدد البنك الدولي بسحب وعده بتخفيف الدين العام .لقد نجت اندونيسيا من عقود طويلة من حكم الديكتاتور سوهارتو في نفس الوقت تقريباً الذي نجت فيه نيجيريا .ومنذ توليها الحكم ،تحملت الحكومة الديمقراطية الجديدة ،مثلها مثل الأرجنتين ونيجريا والعراق ،عبء ديون نظام الحكم السابق .ووضع صندوق النقد الدولي نصب عينيه خصخصة ما يزيد عن 60 مؤسسة ومشروع حكومي خلال عشر سنوات .وفي تقرير عام 2001 ،وصف حزب الشعب الديمقراطي المعارض سياسة حكومة وحيد مجاواتي الاقتصادية بأنها بمثابة إخضاع اندونيسيا لسياسات صندوق النقد الدولي .وقد حذر التقرير من خصخصة أكثر من 60 مؤسسة حكومية بم فيها شركة النفط الوطنية بيرتامينا بطلب من الصندوق .وأكد التقرير على أن الشركات الأجنبية ستستولي على معظم هذه المؤسسات :"ففي غمرة الأزمة العامة وانهيار الروبية ،أجبرت الحكومة على بيع الموجودات الوطنية بأسعار بخسة ."ويحذر التقرير من تأثير الخصخصة على فرص العمل ،وأشار إلى طرد 6000 عامل من شركة الكهرباء الحكومية ،وما يقرب من 13000 عامل من شركة الاتصالات بعد أن تمت خصخصتهما .وإذا ما حاولت البلدان تحدي أجندة صندوق النقد الدولي للخصخصة أو أي من سياساتها ،فيكون رد الصندوق سريعاً وموجعا .فمثلا،باعت زامبيا 257 مؤسسة حكومية من أصل 280مؤسسة خلال العشر سنوات الأخيرة .ففي شباط من عام 2003 ،أشار رئيس الجمهورية مواناواسا :"إن زامبيا لم تجني اي فوائد ملحوظة ،لقد أدت خصخصة المؤسسات الحكومية الرئيسية إلى إفقار البلد وتقلص فرص العمل وضياع موجوداتنا الوطنية ."ويعكس هذا القول ترددالرئيس في مسألة خصخصة البنك الوطني ،وهو المؤسسة الوطنية الوحيدة التي لم يكن قد جرى خصخصتها .وكان رد فعل ممثل الصندوق في زامبيا دكتور مارك آيلين على موقف الرئيس التهديد بسحب الوعد بتخفيض بليون دولار من الدين العام .أما في الإكوادور ،فقد شجع صندوق النقد الدولي على مد خط أنابيب نفط جديد من الأمازون إلى الساحل .وبالطبع قامت الشركات الأجنبية بتنفيذ المشروع .وسبب خط النفط العديد من المشاكل البيئية واعترض السكان المحليين على مده . وففي 22أيار من عام 2002،وفي محاولة لتهدئة خواطر المعارضين،وافق الكونجرس الاكوادوري على قانون يتعهد بتخصيص 10%من عائدات تصدير النفط الذي يضخ عبر خط الأنابيب الجديد لتصرف على الأمور الصحية والتعليمية في المناطق التي يمر بها الخط .وقد عارض صندوق النقد الدولي القانون الجديد ،فقام في 29 أيار بسحب عرضة بتقديم قرض بمبلغ 240 مليون دولار،وطالب بعدم تغيير التشريع الأصلي والذي ينص على صرف 80% من العائدات في تسديد الدين والبالغ بليون دولار لصندوق النقد الدولي ،ويحتفظ ب 20%الباقية في صندوق خاص ليستخدم في خدمة الدين في حال هبوط أسعار النفط مستقبلا .وفي نيسان من عام 2002،لم يوافق البنك الدولي ولا صندوق النقد الدولي على إعفاء 20 دولة فقيرة وذات مديونية عالية ،ومعظمها دول إفريقية، من ديونها .وكانت هذه الدول قد استحقت الإعفاء وفقاً لبرنامج مجموعة السبعة الكبار ،وتم تبرير الرفض بعدم توافق سياسات هذة الدول الاقتصادية مع برنامج صندوق النقد الدولي .إن أحد البلدان التي رفضت بشدة سياسات صندوق النقد الدولي هي فنزويلا تحت حكم هوجر شافيز .ونتيجة لهذا ،واجهت فنزويلا غضب حكومة الولايات المتحدة التي يشك بتورطها في المحاولات الانقلابية ضد حكومة شافيز .
خطط صندوق النقد الدولي المتعلقة بالعراق
ينص البيان الصحفي لصندوق النقد الدولي والصادر في 30 أيلول عام 2004 ،والتي أعلن فيه إطلاق برنامجه "المساعدات الطارئة لحالات ما بعد النزاع " على ضرورة تنفيذ إصلاحات هيكلية أساسية لتحويل العراق إلى اقتصاد السوق ،بما في ذلك الإصلاح الضريبي،وإصلاح القطاع المالي وإعادة هيكلة مؤسسات القطاع العام .وأكد البيان على ضرورة تحقيق تقدم في هذا المجال خلال عام 2005 .والملاحظ أن كلمة "إعادة الهيكلة "تعني "الخصخصة" في هذا السياق .إن أولويات الصندوق قد انعكست بشكل مفصل في رسالة النوايا المؤرخة بتاريخ 24أيلول والتي عبرت فيها حكومة العراق المؤقتة عن نيتها على اتباع سياسات تتماشى مع سياسات صندوق النقد الدولي .وتشير الفقرة 21 من هذه الرسالة بأن العراق قد سن قانوناً جديداًيتعلق بالاستثمارات الأجنبية ينص على السماح للأجانب بالتملك في جميع القطاعات الاقتصادية .وتنص الفقرة 38 على التزام الحكومة بدراسة وضع العديد من مؤسسات القطاع العام التي وصفتها الرسالة بأنها "غير قابلة للنمو ضمن الهيكلية القائمة "،وعلى الانتهاء من الدراسة في نهاية عام 2005 لتتمكن الحكومة من وضع الخطط لإصلاح أو إعادة هيكلة هذه المؤسسات .وتناولت الرسالة مواضيع أخرى تتعلق بإنهاء الدعم المالي للمحروقات وإنهاء برامج توزيع الغذاء وتحديد رواتب موظفي الحكومة وراتبهم التقاعدي .
في الأسبوع الماضي ،كنت في عمان حيث قابل ممثلي صندوق النقد الدولي بعض العراقيين من الرسميين للتأكد من أن السياسات التي فصلتها رسالة النوايا قد جرى تنفيذها .وقد أخبرني العراقيون بشكل شخصي عن الضغوط الكبيرة التي تعرضوا لها لتنفيذ مطالب صندوق النقد الدولي .ان أهم رافعة ستستخدم لتنفيذ أجندة صندوق النقد الدولي هي الشروط الموضوعة لخفض ديون صدام والبالغة 125 بليون دولار .ففي تشرين الثاني من السنة الماضية وافق نادي باريس على خفض مستحقاته من الدين العام ،والبالغة 42 بليون من أصل 125 بليون ،بنسبة 80% .إلا أن هذا التخفيض كان مشروطاً بتحقيق العراق للأهداف التي وضعها صندوق النقد الدولي في نهاية 2008 .وعندما وقعت الحكومة العراقية المؤقته اتفاقية باريس هذه ،لم تكن سياسات وأهداف صندوق النقد الدولي قد أعلنت بعد .ومن المتوقع أن يتم الإعلان عنهم في أيلول من هذا العام ضمن ما أصبح يعرف ب "الاتفاقية البديلة ". ومن المؤكد أن جزء كبير من الاتفاقية سيتناول برنامج الخصخصة الضخم .
رؤية العراقيين لصندوق النقد الدولي وللدين
في حلقة نقاش عام للوضع في العراق نظمتها جامعة كولومبيا ،نيويورك ،مؤخرا،أورد البروفسور ستيجليتز سياسات صندوق النقد الدولي في روسيا في التسعينات كمثال على ما سيجرى في العراق .والبروفسور ستيجليتز حاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد وكان المستشار الاقتصادي الرئيسي للبنك الدولي ،وأصبح فيما بعد من أشد منتقدي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي .وقد أوضح البروفسور إن الناتج المحلي الإجمالي في روسيا قد أنخفض بنسبة 50% وإن مستوى الفقر قد ارتفع من 2% إلى ما بين 20 -24 % ، وذلك نتيجة للتحول السريع من اقتصاد اشتراكي إلى اقتصاد حر .وأشار البروفسور على أن هذه الإستراتيجية ،التي ينوي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تنفيذها في العراق ،"لها تاريخ حافل بالإخفاقات ."وقد كتب البروفسور ستيجليتز في سياق آخر :"نظريا ،يدعم صندوق النقد الدولي المؤسسات الديمقراطية في البلدان التي يدعمها .وفي واقع الحال ،يقوض الصندوق العملية الديمقراطية من خلال فرض السياسات ."ويتفق العديد من خبراء الاقتصاد العراقيين مع تحليل البروفسور ستيجليتز للمخاطر التي سيتعرض لها العراق نتيجة لسياسات صندوق النقد الدولي .وقد أكد لي دكتور صالح ياسر على أن "شروط الصندوق تتجاهل كلفة هذه السياسات .وتبين تجربة الاتحاد السوفيتي أن كلفة التحول كانت عالية جداً ،والعراقيون لا يستطيعون تحمل الكلفة الاجتماعية نظرا لأوضاعهم المأساوية .إن برنامج الصندوق للتعديل الهيكلي سيخلق المزيد من التوتر الاجتماعي مما قد يدمر تجربة التحول نحو الديمقراطية ."وقد كتب لي خبير عالم اقتصادي عراقي يعمل في المهجر كخبير لأحدى الحكومات الغربية :"أوافق على تحليلك حول خفض الديون وأن الدائنين يرغبون في إبقاء العراق مقيداً.وللأسف، هذه هي اللعبة .فالحكومة المؤقتة قد تم تنصيبها من قبل قوات الاحتلال ولا تستطيع رفض هذه الترتيبات .عندما أفكر في أخطاء سياسات صندوق النقد الدولي السابقة ،اشعر بالخوف .فليس أمام العراق أية فرصة للنجاح طالما يقوم الصندوق بوضع مثل هذه السياسات لفرضها على العراق ."وفي 22 تشرين ثاني من عام 2004 وبعد يوم واحد من توقيع اتفاقية نادي باريس ،قدم السيد سعد صالح جبر ،وهو رئيس اللجنة الاقتصادية والمالية في المجلس الوطني المؤقت ،توصية تطالب الدائنين بمعاملة أفضل ،وقد وافق المجلس الوطني على التوصية بالإجماع العام .وقد خاطب السيد جبر المجلس الوطني قائلاً :لقد سمعتم أخبار الأمس حول الاتفاق مع نادي باريس .ويسوق الإعلام العالمي هذا الاتفاق على أنه صفقة العمر .ولكنه ليس كذلك .هذه جريمة جديدة يرتكبها الدائنون الذين مولوا قهر وظلم صدام ."
البديل :التحكيم بشأن الديون البغيضة
لقد طرحت توصية المجلس الوطني طريقا بديلا للتعامل مع الدين مختلفا تماماً عن مقاربة نادي باريس .وتقوم التوصية على أساس أن الدين قد تراكم أثناء حكم صدام واستخدم في تمويل الحرب العراقية –الإيرانية والأنفال وقهر جميع فئات الشعب العراقي .فقبل وصول صدام للسلطة لم يكن العراق مديوناً أبداً. وعندما انخفض دخل العراق من عائدات النفط خلال الحرب ضد ايران ، احتاج صدام اموالاً لتمويل الحرب وأعتمد على الدفعات النقدية من دول الخليج وعلى قروض من البلدان الغربية وغيرها من الدائنين تنفق في استيراد سلع . وقد غطت هذة القروض صفقات الأسلحة والمعدات العسكرية ، بينما حرر بعضها ،كقرض إدارة الزراعة الأمريكية لاستيراد أغذية بقيمة 3 بليون دولار ،عائدات النفط العراقية ليستخدمها صدام في تمويل الحرب بدلا من استخدامها في تمويل واردات أساسية أو في مشاريع كانت تمول بقروض أجنبية .إن هذه الحجة القانونية ،وتسمى نظرية الديون البغيضة ،والتي تقول بأن الدين الذي لا يستخدم في منفعة الشعب ،وإنما في دعم فساد وقهر الديكتاتورية ،هو دين فاقد الشرعية القانونية .ولهذا ،فإن العراق الديمقراطي الجديد غير ملزم قانونياً أو أخلاقياً بتسديد هذه الديون .ولابد من إلغاء هذه الديون حالاً .فالعراق ليس مجبراً على وضع مقدراته تحت رحمة صندوق النقد الدولي مقابل شطب جزء بسيط من ديونه .وقد أخبرني السيد حاجم الحسني بأن "العراق ليس مسئولاً عن اية ديون أستخدمت في دعم جهاز النظام الحربي .وعلى الدائنين الذين مولوا صدام دفع تعويضات للشعب العراق ." وأطلع السيد آية الله الحكيم أحد أعضاء شبكة "الاحتفاء بالعراق "على رايه بديون العراق :"لقد ارتكب الدائنون عملا عدائيا ً بحق الشعب العراقي بتزويدهم نظام صدام بهذه الأموال ... ومما لا شك فيه إن هذه الديون هي بغيضة ."وبالطبع ،لا ترغب الولايات المتحدة ولا صندوق النقد الدولي ولا غيرهم من الدائنين في حدوث هذا .إذ يتطلب هذا اعترافهم العلني بتمويلهم نظام صدام والذي عارضوه فيما بعد .ولكن إذا ما تمسك العراق بموقفه حول طبيعة ديونه ،فلن يكون بمقدور الدائنين فعل الكثير لمنع ذلك .وهناك دعم دولي كبير لهذا الموقف حتى بين خبراء اقتصاديين عالميين .فمثلا ،أوردت الايكونمست ،وهي المجلة الاقتصادية الرئيسية في المملكة المتحدة ،في افتتاحيتها ما يلي :"هناك قضية واضحة تتعلق بضرورة إلغاء معظم ديون العراق وفقاً لاعتبارات النفعية الاقتصادية والعدالة ،وأن يتم ذلك بسرعة ...فمن الواضح إنه ليس من العدل تحميل العراقيين دفع فاتورة المصاريف المتهورة لنظام قمعهم بشدة .حاليا ،لايتعامل النظام المالي مع هذه الأمر بحكمة .فنادي باريس تعامل مع الديون على أساس تقديره الخاص لقدرة العراق على الدفع وليس على صواب وعدالة هذا الإجراء من الأساس .وهذا ليس عدلاً ."وتناولت افتتاحية جريدة الول ستريت الموضوع قائلة :"لن نلوم قادة العراق إذا ما قرروا إن بعض هذه الديون هي في الحقيقة ديون بغيضة ."حتى مرام بيلكا ،رئيس وزراء بولندا والذي عمل سابقا ً كمستشار اقتصادي لسلطة الإتلاف المؤقتة ،أعترف بأن "90% من ديون العراق هي ديون ناتجة عن الحرب ."وقد دعم ما يقرب من 100 نائب في البرلمان البريطاني توصية شبكة "الاحتفاء بالعراق "حول الدين ،ووقع 31 عضوا من الكونجرس على "إعلان تحرير العراق من الدين ".ولسوء الحظ ،قامت إدارة بوش بعرقلة الإعلان على أساس أن "القروض التي قدمت للعراق كانت بطلب من قيادة حزب البعث .وبدلاً من استخدامها لصالح رفاه الشعب العراقي ،استخدمت في بناء القصور الفاخرة والسجون ،وفي تمويل البوليس السري وبرامج التسلح غير المشروع .ووفقاً لحالات عالمية سابقة ،فإن الديون التي يتسبب بها دكتاتور بغرض قهر شعبه أو لأهداف شخصية يمكن اعتبارها ديون بغيضة ."
الخلاصة
تقود الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي علانية جهود إعادة هيكلة اقتصاد العراق وفقاً لإيديولوجيتهم ومصالحهم ،وليس على أساس الإرادة الديمقراطية للشعب العراقي .وتمثل الخصخصة أساس هذه الأجندة ،اما الوسيلة الرئيسية لتنفيذ هذه الأجندة فهي الديون .إن الحل لديون العراق هو إنشاء محكمة تحكيم تنظر في الدين البغيض .ويمكن لهذه المحكمة أن تقرر أي من الديون هي ديون بغيضة وأيها ديون قانونية شرعية .وبما أن غالبية الديون هي ديون بغيضة فستحكم المحكمة بإلغائها ،وبدفع الديون القانونية للدائنين الشرفاء .إن هذه العملية هي الأفضل للعراق ولهؤلاء الدائنين .إن تبني العراق لعملية تحكيم قانونية وشفافة لحل مشكلة الدين سيؤدي إلى تعزيز سمعة العراق على المستوى الدولي وسيحرر العراق من معظم دين صدام ومن سياسات صندوق النقد الدولي الاقتصادية .
مقالات اخرى للكاتب