انتهى أسبوع كامل من شهر رمضان المبارك. وأجد من حق القارئ على كتاب الجرائد أن يسردوا له بعضاً من قصص الناس في الشهر الفضيل، بعيداً عن هموم السياسة ونكباتها.
وأبدأ من أحد أبرز الأطوار الغنائية، التي عادة ما كانت ترافق الفعاليات الشعبية بعد الإفطار، وهو طور المربع البغدادي. واليوتيوب حافل بعدد كبير من مطربي المربعات الشعبيين، ولكن الذي لفت انتباهي النصوص التي يؤدونها، وإليكم أحدها، وقد أداه المطرب المعروف فاضل رشيد:
"للمطعم بعد ما اروح قطعية..
"للمطعم فتت مرة.. قطع عقلي.. واجه الصانع بالخواشيك.. جكجكلي... كلي شتشتهي.. دجاجة... سمك مشوي... كتله روح خلي ارتاحلي شويه.. وللمطعم بعد ما اروح قطعية..
"راح وجاني ويعد لي بالألوان... طماطة... بامية... تمن وبيتنجان... لو باجة تريد وياها نص لسان... لو شوربة عدس وياها شعرية.. للمطعم بعد ما اروح قطعية..
كان مطرب المقام يدور بين حشد من الشباب والكهول في درابين بغداد وهم يلعبون لعبة المحيبس الشهيرة، فيما النساء الجميلات يتابعن من وراء الشبابيك والأبواب، ومن على سطوح المنازل. عليّ أن أستدرك هنا بالقول: لم يكن فكر التكفير حاملاً سيفه فوق رؤوس العباد، لا من هذا الطرف، ولا من ذاك.. والعاقل يفتهم!
تدور في هذا المشهد المسرحي، متقن الصنع، صواني البقلاوة والزلابية، بينما السلطة المطلقة هنا لرجل يدور بين الجموع بحثاً عن المحبس الذي أخفاه الفريق المقابل. فيما عدد من شقاوة المحلة يحرسونها من الدخلاء، فهم ينتشرون في المكان وعيونهم مصوبة، مرة للحدث الدرامي ومرة لرصد الغرباء.
هل كان المربع البغدادي هو اللون الغنائي الشائع فقط في تلك الايام؟ بالطبع كلا.. جلسات المقام العراقي كانت هي الأخرى ميزة رمضانية، وخاصة في المتحف البغدادي. وأذكر أنني سكنت في فندق في شارع الرشيد، وكنت أنام على سطح الفندق في الليالي القائضة، واستمع حينها إلى أصوات عباقرة المقام العراقي وهم يؤدون ألحاناً لا تنسى في مقهى المتحف، القريب من تمثال الرصافي.
وايضاً ثمة أغنيات الأطفال، وهي جزء حيوي من تراثنا الشفاهي، تلك الأغنيات التي كان الأطفال يمرّون فيها على البيوت، بيتاً بيتاً، في طقس كرنفالي لا يخلو من المتعة، والفن أيضاً.
تحليل كلام أغاني المربعات والمقام، وأغنيات الأطفال، يحتاج إلى جهد معرفي لا أدّعي أنني أملكه، وربما يكون صاحبنا محمد غازي الأخرس هو القادر على الخوض فيه، ولكنني وددت أن أسجل استغرابي للسذاجة التي تمتاز بها بعض تلك النصوص، وإغراقها في اللامعنى. جدير بالذكر أن تلك الأغاني صاغها عباقرة الغناء الشعبي العراقي، سواء على ضفة المربعات البغدادية، أو ضفة المقام العراقي.
أما جلسات السمر، لكبار السن، فأعرف أنها كانت تنهل من ثقافتين: شفاهية ومكتوبة، وفي الحالين تحضر أبيات من الشعر العربي الفصيح، التقليدي، وكذلك قصص الخوارق والأبطال، وبعض القفشات التي تنهل من معين المكبوت، وخاصة الجنسي، فلا غرابة أن يمنع الأطفال والصبيان من دخول تلك المجالس، ومن المؤكد أن ثمة مجالس مشابهة كانت مخصصة لنساء الطرف، تكون بمثابة تسلية في ساعات الليل الطويلة، وهي طويلة بسبب عدم وجود الكهرباء حينها مثلاً، أو بسبب وجود إذاعة واحدة، تطورت إلى محطة تلفزيونية واحدة فقط.
كان شعار تلك الأيام البساطة، فيما شعارنا اليوم التعقيد!
مقالات اخرى للكاتب