ربما انا الوحيد من هذا العالم ولست ( مندائيا ) من كتب عن الرؤى الروحية والاجتماعية والغيبية عند المندائيين ( ثمانية ) كتب ، وربما غيري لم يتجاوز الكتابين . وهذا الفخر الذي يشعرني ان الاخر في عطر المكان المتعدد الازهار عليه ان يحسس ذاته ومن حوله ان الربيع للجميع .
ولهذا وانا اكتب عن تلك الديانة الغنوصية الممتلئة بساطة واسرارا وروحانياتً وسماء تتشح مع زرقتها الثياب البيضاء لكهنة المياه والاس والتعميد أشعر اني اكتب عن وطن توحده الخواطر ونعوش الشهداء ورسائل الغرام وكل الميتافزيقيات الاخرى من شهية الحلم في اجفان جلجامش وحتى صولة الجنود من اجل استعادة الركام الذي تجمع فوق قبر النبي يونس في الموصل حين فجره الارهاربي الداعشي.
المندائية ديانة تسبح في النقاء والاستكانة والظل وكأنها تريد أن تلامس صدى الضوء البعيد في الكواكب التي تعيش في مجموعتنا الشمسية وابعد ، وكأنها تبحث عن المكان الجغرافي للجنائن الخالدة التي تحدثت عنها كتب السماء ومنها كتاب المندائية المقدس ( الكنز ربا ) اي الكنز العظيم.وبين المندائية والعمر الحضاري لجنوب الله والقصب والطين هناك وشائج من مودة القصيدة وتفاصيل الاسطورة وعبارات كان الكهنة يرددها من اجل الاتيان بمواسم الخصب وانتصارات الحروب وعقد مواثيق التجارة والزواج والتحضير لمراسيم اعتلاء ولي العهد ملكا في السلالة السومرية .
تلك الآصرة التي صنعها الشوق بين سكان الصرائف وبيوت الطين الاوائل وبين أحلام آدم الاولى هي من صنع للمندائيين خلود لحظتهم مع المكان فصاروا رواد الحياة الاولى وربما صاحبوا نوح ع في مسيرته المائية ، ولكن المؤكد انهم كانوا مع ابراهيم الخليل ع في رحلته الازلية من اور الى حران حيث استقروا هناك اولا ـ وربما بعضهم اكمل السير معه الى مصر وفلسطين.الغريب أن رواد المكان الساحر ( ميزوبوتاميا ) هم اليوم بأعداد الشتات اكثر عشرات المرات من الذين ما زالوا يتفيئون بشمس صباحات العراق ، غير عابئين بكل الملثمين والخناجر ورصاصات الغدر التي تمنت وارادت في لحظة ما افراغ البلاد من اقدم مكوناتها وهم المندائيون ) صُناعَ اللوح والمنجل وخاتم الفضة والذهب ، والذين يحسبون نوايا الافلاك والكواكب بسر الغيب والارقام والنبؤة والتميمة.
هم من أسسوا الحس الجميل قبل ان تبدأ كتابة الشعر على الواح الطين .وحتى أثبت أن رائية المندائي تعتمد على الأيحاءات الحسية المبثوثة من ذات عظيمة فأني سألت أحد المندائيين من سكنت منطقتنا في مدينة الناصرية أيام كنا نبقى يقظين طوال الليل للمراجعة في أمتحانات البكلوريا وكان هذا المندائي الكهل يستيقظ في الساعة الثانية بعد منتصف الليل ليسبح في نهر الفرات وتحت ضوء القمر المكتمل وقد كرر هذا الطقس أمامي لأسبوع كامل .
وقد أدهشتني دقة التوقيت في نهوضه الليلي وممارسة هذا الطقس ، وأنا أعرف عنه أنه لايملك ساعة وليس لديه من أبناء في البيت مما أضطرني لأوقفه بعد أن أنهى فصل السباحة والخشوع العجيب في مساحة الضوء الذهبية المنتشرة على الماء مثل قماش جديد .
أجابني . هل أنت مندائي أم مسلم ؟
قلت : مسلم .
ـ وماشأنك فيما أفعله ؟
ـ أعجبني تأملك وتمدد جسدك على الماء وأنت تتامل القمر ، ثم أني كنت أرى شفتيك تهمسان بكلمات لم يتسنى لي سماعها .
ـ انها المندائية النقية .
ـ ولماذا كل هذا وفي الوقت نفسه .؟
ـ ولدي أنا أنام فوق السطح . منذ أسبوع تحسست أجفاني ضوءاً آتٍ من جهة المندي . حين أجتمعت حزم الضوء في عيني ، يأتيني الأيحاء بعمل هذا الطقس .
ـ وماذا تفسره ؟
ـ أعتقد أنه تعميد لرحيل أبدي .
ـ موت ؟!
ـ نعم . وعن قريب .
في الصباح كنت لم أزل أراجع دروسي في ذات المكان ، عندما سمعت نحيب أمراة في أحد البيوت . وحين سألت . ؟
قالوا ان فلان توفاه الله .
لقد كان هو ذلك المندائي الذي كان يتأمل ضوء القمر وهو ممددا على سطح الماء مثل سجادة كاشانية .
دوسلدورف 8 نوفمبر 2016
مقالات اخرى للكاتب