تندرج موضوعة المظاهرات الواسعة التي انطلقت في الأسابيع الماضية في العراق، وشملت مراكز المحافظات والاقضية والنواحي، واستقطبت قطاعات شبابية من مختلف طبقات المجتمع وفئاته الاجتماعية، ضمن مفهوم الحركات الاجتماعية الجديدة، التي تجلت بدايةً في الحركة الطلابية في فرنسا اواسط عام 1968، عند نزول الطلاب الى الشوارع وانضمام العمال إليهم، واستجابة أوساط واسعة من الشعب الفرنسي سريعا وبصورة منسقة، ادهشت العالم واذهلته.
وانصب الكثير من الاهتمام على الحركة الاجتماعية الجديدة، التي انتشرت واتسعت نشاطاتها على مستوى بلدان متنوعة وعلى مستوى العالم، وتوقف المفكرون عند خصائصها وسماتها، التي ترتكز على افقية التنظيم، ووحدة الهدف، وسعة النشاط، وشعبية المساهمين به، وغيرها.
لم يكن من بين مساعي الحركات الاجتماعية الاستحواذ على السلطة السياسية كما هو شأن الأحزاب السياسية، مع أنها تعمل على توظف آليات العمل السياسي المباشر لممارسة أنشطتها وتحقيق أهدافها. فهي ترفع مطالبها الى صناع القرار وتسعى للتأثير في صنع القرار، لا اكثر. فهي لا تسعى الى الاستحواذ على مؤسسات السلطة، ولا تزاحم الأحزاب السياسية في مجال نشاطها، انما فقط تأمل في ترسيخ نمط معين من المشاركة السياسية، بغية التأثير على سلطات صنع القرار وتحقيق مكاسب سياسية على مستويات متعددة.
وقد نجحت في استخدام وسائل الاتصال الاكتروني للتحشيد وفي فتح النقاش من خلالها لتحديد المطالب وصياغة الاهداف. وفي هذا الصدد يمكن الاشارة الى حركة «احتلوا وول ستريت» التي بلغت ذروتها في 15تشرين الاول2011، كمثال ملموس للقدرة على التحشيد، كما فاجأت العالم بقدرتها على كسر القوالب الجاهزة ورفع مطالب ملموسة، استطاعت عبرها كسب تعاطف الناس، وشدتهم نحو مصالحهم المشتركة.
هكذا عبرت هذه الحركات عن شكل معين للمواجهة بين المستغلين والمستغلين، بين المتطلعين الى عالم اكثر عدلا وبين المتحكمين بالسلطة والمال والذين لا حد لجشعهم ونهمهم.
وهكذا هي المظاهرات اليوم في العراق، حيث شكل مدى انتشارها، وسعة مشاركة الشباب فيها، صدمة لسياسيي الصدفة. اضف الى ذلك سرعة وقوة فعلها، ووضوح مطلبها باصلاح النظام السياسي وتخليصه من المحاصصة الطائفية، ومن منظومة الفساد التي تمترست في مفاصل الدولة، وأعاقت كل جهد يستهدف البناء والاعمار والتنمية.
لقد تصورالمتنفذون الذين انهم يقدرون على تدجين الشباب عبر حرف الصراع الحقيقي بين قوة متنفذة استأثرت بالمال والسلطة والنفوذ ونهبت موارد وممتلكات الدولة وانتجت التخلف والفقر ، وبين شعب تم إفقاره بتقصد ودون رحمة. لكن هذه الحركة اثبتت ان الصراع يكمن بين غول الفساد وبين حاضر الشباب ومستقبلهم. انه صراع واضح بين حفنة من الذين استولوا على المال العام، وبين شباب حريصين على مسك خيوط الامل في مستقبل أمن ومستقر.
تأتي المظاهرات لتبرهن مرة أخرى ان استحواذ المتنفذين على السلطة، وانفرادهم بها، وتقاسمهم اياها على اساس المحاصصة، وفرض ذلك كطريقة حكم على العراقيين، لم يجلب الخير للشعب، ولم ينه الاستغلال والتسلط، بل كرس إرادة من همهم تعظيم ارباحهم على حساب الإنسان وكرامته. وهذا وغيره هو ما دفع الحركات الاجتماعية العراقية إلى العمل بمختلف الأساليب الجديدة، لرفض هذا الواقع وتغييره. وهذه الحركات تفرض حضورها على الساحة السياسية كقوة فعالة مؤثرة، يحسب لأنشطتها واهدافها الف حساب. وقد وضعت السلطات الثلاث امام تحد لا يقبل التسويف،?تحدي التعاطي مع مطالب الحركة دون ابطاء. فالتسويف والالتفاف لن يجديا نفعا، كما ان محاولات استغلال الحراك لخوض الصراعات السياسية وتصفية الحسابات بين المتنفذين، لن يكون سوى استغلال بائس يعكس جهلا بقدرة الشعب العراقي المنتفض من اجل التغيير والإصلاح، عبر هبة شعبية جبارة، لا يغلبها متنفذ فاسد.
مقالات اخرى للكاتب