واصل المتظاهرون احتجاجاتهم للأسبوع السابعة، بهمة ونشاط وشجاعة، ورفعوا رفع مطالب أساسية مهمة، لو قدر لصاحب القرار السياسي التعاطي معها بصدق وايجابية وفعالية، لانتشل العراق من الدهليز الذي وصل إليه نتيجة البنيان الخاطئ للنظام السياسي القائم، باعتماده الطائفية السياسية أساسا. فالمطالب أتت كجواب واقعي وممكن لمفاعيل الأزمة، وحلا لها، وطريقا للخروج منها، بعد اقتلاع جذرها المتمثل في طاعون المحاصصة، الفاتك بالبلد والشعب، والذي هو أس الخراب وركيزة البلاء.
لم ترتق استجابة السلطات الثلاث الى الحد الأدنى من المطالب. فجلها كانت تقشفية، وكان وراء اتخاذها ضعف الميزانية، جراء انخفاض موارد النفط. ومنها ما تم اتخاذه قبل اشهر عديدة من بدء المظاهرات، مثل إقراض خمسة تريليونات دينار من البنك المركزي العراقي للتنمية ودعم القطاعات الاقتصادية. عبر المصارف الصناعي والزراعي والعقاري والإسكان. ورغم وعي المتظاهرين لمغزى الحزم (الإصلاحية) التي لم تمس جوهر المطالب، فأنهم رحبوا بها، معتبرينها خطوة مهمة في اتجاه تخليص الدولة من الترهل، ومحاولة لتنويع اقتصاديات العراق، وبداية بناء وجهة اقتصادية صحيحة.
بقيت المحاصصة ثابتة عصية على اي إجراء يمسها كيف لا وهي أساس النظام وحارسته، فيما بقى الفساد كما هو قويا، فعالا، نشيطا، محتميا بقوة هائلة لا قدرة لحكومة على اختراق بنيانها المتين. بقى الفساد متمترسا في مفاصل الدولة ومؤسساتها، لا ينال منه إجراء، ولا يخدش جبروته قرار. و لم يجرؤ احد على الاشارة الى رؤوسه الكبيرة، ولم تطرح ملفاته الأساسية. وكأن هذا الفساد شبح وليس شخصيات نافذة في قمة السلطة، يشاركهم تجار الفساد المعروفون. اما ملف الخدمات فلا اجراء جاداً سمعنا به، ولم نشهد اي تحسن فيه، وظل المواطن لا معاملة توقع له دون ان (يحرك يده ويدهن السير).
ان الرهان على افشال الحركة الاحتجاجية، عبر وسائل باتت معروفة ومكشوفة، منها الرهان على ضعف المشاركة، او تشويهها والتضييق عليها، وتهديد ناشطيها وكيل الوعيد لهم، هو رهان فاشل. فالأسباب التي دعت الى التظاهر لاتزال، والمواطن بعد الوعود الكثيرة التي أغدقت عليه سابقا وبقيت وعوداً فقد بخطاب المسؤولين وكلامهم. وان كل ذلك، فضلا عن امور اخرى، دفع المتظاهرين الى فتح نقاش واسع في ما بينهم، والتفكير في السبل التي يمكن اللجوء اليها لإسماع صوتهم أكثر، الامر الذي دفعهم للقيام بعدد من النشاطات التصعيدية، منها ما حدث في محافظة بابل يوم الاحد 12 ايلول، ومحاولة اغلاق مقر المحافظة من قبل المحتجين، ولجوء القوات الأمنية الى القوة المفرطة وإشاعة الرعب. وكذلك المسيرة الراجلة لعدد من شباب الناصرية وتوجههم الى بغداد، والاضراب عن الطعام الذي نفذه الناشط الشاب علي المدني، والمظاهرة التي خرجت صباح يوم الثلاثاء في كربلاء.. كل هذا وغيره من النشاطات والفعاليات أكدت ان المتظاهرين يحاولون بكل السبل رفع وتيرة نشاطاتهم، كي تُسمع مطالبهم.
لا شك ان هذه الأساليب التصعيدية طبيعية، كونها تقع ضمن دائرة الكفاح اللاعنفي من اجل تحقيق المطالب. لكن اذا استمرت السلطات في تجاهلها وعدم سماعها للمطالب بشكل مناسب، ولم تتخذ إجراءات إصلاحية سريعة، وضمن رؤية واضحة وبرنامج شامل ومنهج عملي رصين، فقد تخرج التظاهرات عن طابعها المعروف، وعن أدواتها الحالية. سيما ان القناعة أخذت تتسع بان الحكومة لا تبالي بالمظاهرات و لا تكترث بهذا النوع من النشاط. وهذا يتطلب تصعيد النشاط بصورة أخرى، كما يفكر الشباب ويطرح.
اجزم ان الحركة الاحتجاجية خلقت جوا مناسبا لتعزيز فكرة المواطنة بدل المحاصصة، وقيم المحافظة على المال العام بدلا من ثقافة الفساد والانحلال من الالتزام والأمانة، وشجعت الشباب على الانخراط في العمل المدني والسياسي. كما انها فتحت كوة أمل بإمكانية الإصلاح، ولا زالت تطلق ديناميكيات فعالة على أكثر من وجه وصعيد، وتتسم بالحيوية بحيث لا تستطيع إية قوة إيقافها، او إبطاءها. ما خاصةً وهي تحمل مشروعا إصلاحيا شرعيا، لبناء عراق مدني ديمقراطي مزدهر، لا إرهاب فيه ولا اضطهاد ولا فوضى.
مقالات اخرى للكاتب