ليس ثمة شك في أن الحديث الدائم للمسلحين السنّة، يتقدمهم تنظيم «الدولة الإسلامية» عن دخول بغداد، وتسريب الإشاعات عن مواعيد محددة لمعركة كبرى عاجلة على أسوار العاصمة، يحمل أبعاداً سياسية، ونفسية، أكثر من كونه هدفاًَ عسكرياً، فالجميع يدرك أن معركة في بغداد التي تضم حوالى 8 ملايين نسمة هي نوع مع الانتحار لكل الأطراف في هذا التوقيت.
لكن مستقبل بغداد ومجموعة من المدن والبلدات العراقية الأخرى، والتي قد تشكل بمجملها ربع مساحة العراق، قد يكون الأسوأ على امتداد تاريخ هذه المدينة، في حال اختار المتصارعون المحليون والإقليميون والدوليون، الإبقاء على نمط الصراع الحالي إلى فترات طويلة.
واقع الحال أن الخريطة العراقية تنقسم اليوم، إلى أربعة أرباع من المساحات، يسيطر الجيش والمليشيات على أحدها في السهل الجنوبي الممتد من جنوب بابل إلى البصرة حيث التمركز السكاني الشيعي، وتفرض البيشمركة الكردية نفوذها على ربع آخر يمثل إقليم كردستان، ويعلن زعيم «الدولة الإسلامية» أبو بكر البغدادي الربع الثالث «خلافة» ويشمل الموصل وأجزاء من صلاح الدين وكركوك وديالى والأنبار وهي مناطق سنّية تقليدية، فيما هنالك ربع أخير يتداخل في مساحات النفوذ المختلفة، ويشكل ساحة مفتوحة لصراع طويل الأمد على الأرض، والموارد، والمصالح، والسكان.
لم يكن مفاجئاً أن يفهم البغدادي المزاج السنّي، أكثر مما فهمته حكومة رئيس الوزراء نوري المالكي، طوال ثماني سنوات.
فعندما اعتقد المالكي أن الأنبار بحضورها القبلي والديني، هي محور العقل السنّي في العراق، وحاول استدراج تنظيم البغدادي، إلى حرب محسوبة التكاليف والحدود على مساحة مدنها، كان الأخير يفهم التاريخ والوقائع بصورة مغايرة تماماً، ويدرك أن الموصل، ذات الجذور المدنية، والمحال والتقاليد العريقة، هي عاصمة السنّة وجوهر فكرة «كرامة الطائفة» التي نمت في شكل مضطرد وتبلورت في السنين الأخيرة، كما أن سنوات من التنكيل والإذلال على يد جيش حكومي غير محترف، كانت كفيلة بإنتاج بيئة منفتحة أمام إحداث متغيرات عميقة في النظر إلى الخرائط والأفكار والثوابت.
في الساحة الشيعية ثمة نقل مستمر لفكرة المركز من بغداد إلى البصرة، وحديث مستمر طوال سنوات عن المدينة التي «تطعم الآخرين» بالإشارة إلى إمكاناتها النفطية، كما أن مقترح «العاصمة الاقتصادية» يتم تداوله منذ سنوات، وتطالب به البصرة، مثلما تهدد بتشكيل إقليم يفصلها عن باقي أنحاء العراق.
وعلى رغم أن أكراد العراق، لم ينجحوا في شكل كامل في إنهاء التنافس المستمر بين السليمانية وأربيل، فإن هناك اليوم اتفاقاً على أن أربيل تمثل العقل الكردي وعاصمة الدولة المستقبلية، ومركز القرار فيها.
وسط تلك المراكز التي تتشكل وتنمو، كعواصم لطوائف ومكونات، تجد بغداد أن عصرها إلى أفول، وأنها تعاقب على تسامحها الطائفي والقومي لقرون، فتنفتح التهديدات بتحويلها إلى جزء من ربع عراقي دموي، يكون ساحة النزاع الفعلية بين الطوائف.
في السياقات العسكرية، تقع بغداد وسط محيط جغرافي لا يحكمه أحد اليوم، يمتد لمئات الكيلومترات حول بغداد، من الفلوجة وصحراء الأنبار غرباً، ومناطق شمال بابل وواسط وكربلاء جنوباً وديالى شرقاً، وصولاً إلى جنوب صلاح الدين إلى الشمال.
هذه المساحة الخطرة والواسعة التي تسكنها غالبية سنّية، تقع اليوم خارج سيطرة الدولة، مثلما أنها خارج سيطرة المسلحين، وما يحدث منذ أعوام فيها، أن الطرفين يتبادلان النفوذ عليها في شكل دوري، وأحياناً يختلف حكامها ليلاً عنهم في النهار.
مناطق وأحياء داخل بغداد ينطبق عليها هذا الوصف أيضاً، فهي تقع داخل أسوار أمنية خانقة منذ سنوات، وتشهد بين الفترة والأخرى، اعتقالات ومداهمات واغتيالات، وتتهم بالتعاطف مع المسلحين السنّة في الموصل والأنبار وصلاح الدين، وتستعد لـ «ساعة الصفر» لخوض معركة بغداد.
لم تنجح الدولة التي نظر إليها الجميع على أنها «شيعية» في فرض شرعيتها على أي منطقة سنّية سواء داخل محيط بغداد أو خارجه، ومع تراكم الأخطاء، بات عدد متزايد من السكان السنّة ينظر إلى عناصر الجيش والشرطة في مدنهم على أنهم «قوة احتلال» لا قوة دولة، وبات يتشكل مجتمع سنّي سري ومغلق على نفسه، يتبادل المعلومات عن معتقلين جدد، وعمليات مداهمة متوقعة، ويتداول الاتهام بتكتم عن «المشروع الصفوي» و «حرب إبادة السنّة».
بالطبع إن تبنّي السكان السنّة في العراق، هذه النظرية، لم يكن بمعزل عن تأثيرات خارجية، ولم يكن بعيداً من متبنيات الموقف من احتلال العراق، وإسقاط نظام صدام حسين، وعن السياسات الأميركية التي عرّفتهم كـ «أقلية» منذ الأيام الأولى من عام 2003.
الاضطراب الذي صاحب تعريف الوضع الجديد للسنّة، ومن ثم تصدر مجموعات سياسية شيعية تفتقر إلى الخبرة، وإلى العمق في التعامل مع الحساسيات الاجتماعية، للقرار السياسي والأمني، سرّعا من تحول هذه الأفكار خلال سنوات قليلة إلى متبنيات سنّية، وتمرد حقيقي وعميق يهدد بإنهاء الدولة نفسها، ابتداء من عاصمتها التاريخية بغداد.
حتى هذه اللحظة، لم ينتج العقل السياسي الحاكم في العراق، أية آلية بديلة عن الدمج بين السنّة كمجتمع والإرهاب، وهو الدمج الذي بدأت به القوات الأميركية عندما ابتكرت نظرية «الحاضنة الاجتماعية» فأصبحت بمثابة تهمة جارحة.
في المتغيرات السنّية المتسارعة، لم يعد السنّي اليوم، يهتم كثيراً بإثبات برائته من تهمة «الإرهاب»، فلا فائدة حقيقية برأيه من المحاولات الدائمة واليائسة، لإثبات عدم انتمائه إلى التنظيمات المتطرفة التي تستهدف الشيعة في شكل يومي منذ سنوات، فأصابع الاتهام ستوجه إليه على أية حال، سواء كان بريئاً أو مجرماً.
السجون العراقية، كانت أيضاً ميداناً حياً للدمج المفاهيمي بين البريء والمجرم في الذات السنّية، فعلى يد ضباط فاسدين، صار بالإمكان ملء السجون بعشرات الآلاف من الأبرياء، في مقابل إطلاق عتاة قيادات «القاعدة» و «داعش» بصفقات مالية، أو سياسية.
الربع السنّي الذي يقع اليوم تحت سيطرة البغدادي، سيستغرق المزيد من الوقت، للفصل بين هويته التاريخية، وبين هوية التطرف الجديدة، وسيتطلب المزيد من التجارب، لاكتشاف أنه سلم مصيره إلى يد مجرمين لا منقذين.
والبغدادي، لا يريد وجوداً سكانياً شيعياً في مساحة نفوذه، فهجر أكثر من 200 ألف من شيعة الموصل من مناطقهم خصوصاً في تلعفر، وفعل الأمر نفسه في بلدات طوز خرماتو والبشير، والمقدادية، وسيفعل ذلك عندما يحين موعد الهجوم على أحياء بلد والدجيل وسامراء.
التطهير الطائفي، سترد عليه الميليشيات الشيعية وهي تنتزع ما تبقى من الدولة تدريجاً، بتطهير مقابل، في بغداد وجنوبها، وصولاً إلى البصرة، يفتح المواجهة على مصراعيها، بالتزامن مع مواجهة لا تقل خطورة بين البيشمركة الكردية والمسلحين حول النفط ومناطق النفوذ.
المحصلة، أن الربع الحائر من مساحة العراق الذي تشكل بغداد عاصمته الحقيقية، حيث يتداخل السنّة مع الشيعة ومع الأكراد والتركمان والمسيحيين، ولا ينجح طرف في إثبات شرعية الحكم على كل سكانه حتى الآن، مثّل تجربة ثرية طوال قرون لإثبات قدرة الشعب العراقي على حماية التعايش بين مكوناته جيلاً بعد جيل. تجربة جديرة بالتأمل، للبناء عليها، إذا أراد الجميع البحث في أصل المشتركات الاجتماعية، وبعكس ذلك فإن هذه المساحة ستتحول إلى بركة دم عظيمة، لن ينجح أحد في تصريف أثارها.