يحاصرك الجو المشحون بالتوتر والعنف والدم من كل صوب، العمليات الارهابية تتصاعد دون رادع، وليس سوى بيانات الاستنكار والتنديد بالكلمات المكررة والمملة ذاتها، فيما ينفذ الارهابيون جرائمهم بالجملة، وكأن مدن العراق مستباحة لهم وحدهم. يقترفون افعالهم الشنيعة في وضح النهار عبر عمليات نوعية كبيرة تغطي مساحات واسعة من محافظات العراق. كذلك الاغتيالات لم تتوقف، وقد طالت عامة المواطنين، اما اعمال الخطف فقد عادت بوتيرة اسرع.
في مثل هذه الاجواء الخطيرة فرغت الشوارع من الناس، وتعطلت المصالح، وتراجعت متطلبات المواطنين وحاجاتهم، وآمالهم بتحسين اوضاعهم المعيشية والحياتية، واقتصرت على توفير الامن وابعاد شبح الحرب الطائفية. وللناس الحق في ذلك، فالمليشيات الطائفية تعود الى صخبها. تهديد اثر تهديد، و"جيش" مقابل "جيش"، ومليشيا تجابه مليشيا، وتصعيد من جميع الأطراف، والضحية هم المواطنون المتطلعون الى الامان والاستقرار والعمل وراحة البال.
والنتيجة معروفة: المزيد من الخسائر البشرية والمادية، واشتداد القلق والخوف من قادم الايام، الذي يبدو انه سيكون اسوأ من هذه الايام العصيبة التي نعيشها، والتي كان يجب مغادرتها وطي صفحتها نهائيا منذ ان شبع الموت كما يفترض، واصابته التخمة من الاعداد الهائلة من الشهداء الذين راحوا بالجملة ضحايا للارهاب والعنف الطائفي. نعم، يبدو ان القادم سيكون اسوأ مما نتوقع، وها هي التصريحات المحذرة تنطلق من كل الأفواه، وها هم ممثلو الامم المتحدة ينبهون الى الخطر المحدق، ويدعون الى "ازالة بؤر التوتر في منطقة تقف على برميل بارود متفجر".
كذلك القوى السياسية تعبر عن قلقها البالغ، فيما يصرح بعض المتنفذين بأن "العراق يتمزق"، وكأن هذه هي البشرى المنتظرة منهم، وهذا هو الانجاز المأمول.
لا شيء يدعو للتفاؤل ما دامت الرؤوس الحامية تنذر بالشؤم، وتشحذ سكاكين الاحتراب الطائفي، فينكشف زيف خطابات القوى الطائفية التي تغنت بالوحدة الوطنية زورا، وهي تعني في حقيقتها الانقسام الطائفي. وتدعو الى دولة المواطنة المتساوية وهي تقصد التعصب والانغلاق على الذات الطائفية. وقد قفزت مرة أخرى المفردات التي تعبر عن حقيقتهم الطائفية مثل "هم، ونحن" التي يحلو للمتحذلقين الناطقين باسمهم تجميلها، او اضفاء تسمية " كياناتنا" عليها.
أما العقلاء والحكماء فلا يوجد من يستمع الى مطالبتهم بالتهدئة، وعدم جر البلاد الى المجهول، بعد ان كان مطلبهم حل الازمة عبر مؤتمر وطني ينظر في اتخاذ خطوات مدروسة واجراءات ملموسة لاخراج العراق من محنته التي طالت.
وحدهم المتصارعون على السلطة والمال والنفوذ هم الذين لم يسد نهمهم كل هذا الدم المراق، ولم يستشعروا بالمخاطر ما داموا في مأمن منها لغاية الآن هم وعوائلهم واعوانهم. ويبدو انهم لم يتعلموا لحد اللحظة الدرس الذي قدمته الشعوب وهي تقول كلمتها قوية واضحة في اوانها.
والشعب العراقي ليس خارج نطاق الشعوب الحية، وحتما سيقول كلمته واضحة: لا للارهاب.. لا للطائفية السياسية، نعم للامن والامان والاستقرار وارساء الحياة الطبيعية التي توفر بيئة صالحة للاعمار والبناء، نعم للعراق المدني الديمقراطي القائم على المواطنة المتساوية، المستند على الديمقراطية التي تؤمن العدالة الاجتماعية.
ولكي يقول الشعب كلمته، يتوجب على القوى المدنية الديمقراطية ان تستنهض قواها وتحشد طاقاتها وتنسق جهودها. فبسعيها ونضالها يأتي الانفراج، وتنير قناديل الامل الغد القادم رغم عتمة الحاضر.
مقالات اخرى للكاتب