بدا تطبيق السياسة اللغوية والتخطيط اللغوي قبل دخول هذين المصطلحين ضمن مصطلحات علم اللغة التطبيقي بزمن طويل . فقد فرضت الدول الاستعمارية لغاتها على الشعوب المستعمرة في اسيا وافريقيا والامريكيتين. وهذا يمثل سياسة وتخطيطا لغويا واضحا يهدف الى نشر لغة وثقافة لغة المستعمر ويضمن تبعية شعوب المستعمرات اللغوية والثقافية والتعليمية والاقتصادية للمستعمر حتى بعد رحيله , وهذا ما اثبتته التجربة بالفعل . فلقد مارست الدول الاستعمارية ضغوطا على تلك الشعوب المتحررة لاتخاذ لغة المستعمر السابق الفرنسية او الانجليزية لغة رسمية لتلك الشعوب بعد نيلها الاستقلال فتقاسمت فرنسا وبريطانيا مستعمراتها لغويا . ولم تتوقف ممارسة السياسات اللغوية والتخطيط اللغوي للدول الاستعمارية عند تقاسم دول العالم الثالث من المستعمرات السابقة لغويا بين الفرنسية والانجليزية بل امتد الى العولمة اللغوية التي اعادت بموجبها الولايات المتحدة وبريطانيا تعليم اللغة الانجليزية لا تغيب عنها الشمس . ودعمت الولايات المتحدة وبريطانيا تعليم اللغة الانجليزية في جميع دول العالم دعما ماديا ومعنويا لا مثيل له في التاريخ .
وبعد مرحلة انحسار الاستعمار بدات دول المركز (الاستعمارية سابقا ) ممارسة سياسات لغوية وتخطيط لغوي محكم تمثل في دعم نشر لغات المستعمر السابق في مستعمراته وفي العالم اجمع من خلال مؤسسات تتدثر بالتعاون التعليمي او العسكري او الاقتصادي وبوسائل منها استقطاب البعثات من ابناء المستعمرات ودعم نشر ثقافات ولغات المستعمر ودعم نشر المدارس والجامعات الاجنبية والمدارس التبشيرية في دول الفرانكفونية ودول الكومنولث وغيرها من دول العالم الثالث.
ووضحت اللغة الانكليزية لغة للعولمة العلمية والاقتصادية والثقافية والسياسية والتعليمية . وفي زمن عولمة اللغة الانجليزية احتدم الصراع بين اللغتين الفرنسية والانجليزية على لغة الاتحاد الاوربي بعدما اثقلت ميزانية الترجمة كاهل الاتحاد حيث بلغت 11مليار دولار سنويا , وما زال الصراع لم يحسم بعد .
السياسة اللغوية والتخطيط اللغوي في العالم العربي
بدات مظاهر السياسات اللغوية في العالم العربي بانتهاج شعوب المغرب العربي سياسة التعريب كأداة مقاومة للاستعمار الفرنسي ومقاومة فرنسة شعوب المغرب العربي وكان التعريب مرادفا للكفاح للتحرر من الاستعمار الفرنسي وفرضه اللغة الفرنسية على شعوب المغرب العربي وبالتزامن مع سياسة التعريب لدى شعوب المغرب العربي ومناصرة لها في كفاحها ضد فرنسا ومناصرة لباقي الشعوب العربية المستعمرة انذاك نصت المعاهدة الثقافية لجامعة الدول العربية عام 1946 في المادة السابعة على الاتي " رغبة في مسايرة الحركة الفكرية العالمية تعمل دول الجامعة العربية على تنشيط الجهود التي تبذل لترجمة عيون الكتب الاجنبية القديمة والحديثة وتنظيم تلك الجهود . ونصت المادة التاسعة من المعاهدة نفسها على الاتي تسعى دول الجامعة العربية الى توحيد المصطلحات العلمية بواسطة المجامع والمؤتمرات واللجان المشتركة التي تؤلفها وبالنشرات التي تنشرها هذه الهيئات وتعمل على الوصول باللغة العربية الى تأدية جميع اغراض التفكير والعلم الحديث وجعلها لغة الدراسة في جميع المواد في كل مراحل التعليم في البلاد العربية "ولقد اوصت اللجنة الثقافية لجامعة الدول العربية عام 1946 بتأليف هيئات للتأليف والترجمة والنشر جوائز للمترجمين والمؤلفين والناشرين لكل قطر على حدة . وقد صدرت دساتير جميع الدول العربية تحمل مادة تأتي بعد اسم الدولة ونوع الحكم فيها تذكر ان اللغة الرسمية للدولة هي اللغة العربية ومع ان مع بعض مجامع اللغة العربية كمجمع دمشق ومجمع القاهرة تأسست قبل تأسيس الجامعة العربية الا ان هذه المجامع وما تبعها من مجامع اللغة العربية في بغداد وعمان والجزائر والمغرب ومكتب تنسيق التعريب في الرباط وأكاديمية المملكة المغربية في الرباط والاتحاد العلمي العربي واتحاد مجامع اللغة العربية واتحاد الجامعات العربية والاتحادات العلمية والتقنية التخصصية في العالم العربي ومؤتمرات التعريب التي تشرف عليها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم , كلها تهدف الى تحقيق السياسة اللغوية بإثراء اللغة العربية وإحلالها المكانة اللائقة بها كلغة للعلم والحضارة والتكنولوجيا وكلغة عمل لمنظمة الأمم المتحدة ومنظماتها , وذلك لتنسيق كل هذه الجهود حتى لا تختلف او تتعارض او تتكرر , وتواجه جهود جميع المجامع اللغوية في العالم العربي مشكلة الالتزام بما يقر من مصطلحات او يتخذ من قرارات لتنفيذ السياسات اللغوية في العالم العربي الالتزام بما يقر من مصطلحات او يتخذ من قرارات لتنفيذ السياسات اللغوية في أقطار العالم العربي والمشكلة المستعصية في وجه تحقيق السياسة اللغوية في العالم العربي هي الالتزام بالتعريب من قبل الاقطار العربية وإلزام كل قطر في سياسته اللغوية العربية بما يقع تحت ولايته من منظمات تعليمية او إعلامية او ثقافية بالتعريب , ان الالتزام والإلزام بالتعريب شان حكومي سياسي لا بد ان تلزم بتنفيذه وتتابع تنفيذه جهة لها سلطة , فان الجامعة العربية وجميع منظماتها والمجامع اللغوية والعلمية توصي ولكن الالتزام والإلزام شان كل دولة عربية .
يرى فشمان إن التخطيط اللغوي يمثل تطبيقا لسياسة لغوية , ويعرف هاوجن 1959 التخطيط اللغوي بأنه عملية تحضير الكتابة وتقنيتها وتقعيد اللغة وبناء المعاجم ليستدل ويهتدي بها الكتاب والإفراد في مجتمع ما . ويذكر فيشمان وآخرون 1968 م إن احد تطبيقات التخطيط اللغوي هو تنظيم دور اللغة عند بناء الدول بعد تحررها من الاستعمار الذي طمس الهوية اللغوية والقومية للشعوب المستعمرة تمهيدا لإحلال لغة المستعمر بدل لغات تلك الشعوب , ان عمر مصطلح التخطيط اللغوي بمفهومه الاستعماري لا يزيد على 60 عاما ولم يستقر بعد بل وتتجاذبه رؤى ومسلمات متعارضة تنبع من تعرض المصالح . فدعاة التغريب اللغوي من علماء التخطيط اللغوي والمستشرقين والدول الاستعمارية ودول المركز في العولمة اللغوية المعاصرة ومن تبعهم من بعض أبناء المشرق والمستعمرات يشترطون التغريب اللغوي فرنسيا كان أو انجليزيا كشرط للتنمية والتحديث والتقدم الاقتصادي والثقافي والعلمي ويعارض المخططون اللغويون من دول المشرق ودول العالم الثالث (المستعمرات سابقا ) ودول الهامش في العولمة المعاصرة دعاة التغريب اللغوي متحدين مصداقية رؤاه ومسلماته المنطلقة من مصالح استعمارية استجدت لخدمة الاستعمار اللغوي والتبعية اللغوية ويعترضون على تجاهل تجارب دول المشرق في التخطيط اللغوي التي تمتد آلاف السنين قبل الاستعمار ان للغات كالصينية والعربية تجارب في التقييس والتقعيد والمصطلحات والمعاجم يفوق عمر اللغة الانجليزية والفرنسية . وتتعدد صور تطبيقات التخطيط اللغوي الحديث ومن أبرزها :
1- التنقية اللغوية . ومن أوائل الدول التي مارست هذا التطبيق فرنسا, حيث أصدرت نظاما لحماية اللغة الفرنسية من المفردات والمصطلحات الدخيلة وسهر على متابعة ذلك مجمع للغة الفرنسية ونظام ملزم لقرارات حماية اللغة الفرنسية , واضطلع المجمع بتوليد المفردات والمصطلحات الفرنسية لتواكب تطور المعرفة الحديثة . وقامت تركيا بتطبيق مماثل عندما اتخذ أتاتورك قرار التتريك وقطع الصلة بين تركيا العلمانية وتاريخها الإسلامي وتغيير حروف اللغة التركية من الحروف العربية الى اللاتينية .
2- ترقية اللغة ومن أمثلة تطبيق هذا التخطيط اللغوي ترقية لغة بذاتها من بين مئات اللهجات او اللغات محدودة المتحدثين في بلد ما . وحدث هذا التطبيق في ترقية اللغة السواحيلية لتصبح لغة وطنية في تنزانيا , وكذلك ترقية اللغة الماليزية لتصبح بديلا عن لغة المستعمر في ارخبيل اندنوسيا وخيارا بين اكثر من 200 لهجة لسكان جزر اندنوسيا .
3- احياء اللغات الميتة , وطبق هذا التخطيط اللغوي على احياء اللغة العبرية التي كانت مهجورة لقرون خلال إنشاء مجلس لغوي تطور فيما بعد الى الأكاديمية العبرية وعهد إليها بتقييس اللغة العبرية وتحديثها وبعثها من جديد لتصبح لغة قومية تدرس بها جميع العلوم والطب .
4- إحلال اللغات القومية محل اللغات الأجنبية في التعليم . واختارت هذا التطبيق من التخطيط اللغوي كثير من الدول التي حرصت على تيسير العلوم بالغة إلام لابناءها وتوطين العلوم والتقنية بلغة شعوبها وطبق هذا في اليابان , روسيا , كوريا , الصين ,فيتنام , سورية .
5- الدفاع عن منزلة لغة ما . اكثر من مارس هذا تخطيط اللغوي الدول ذات اللغات الرئيسية في العالم كالانكليزية والفرنسية او اللغات التي يكثر المتحدثين بها في العالم كالاسبانية والبرتغالية والصينية والعربية . وتدافع الدول عن منزلة لغاتها لتصبح لغة عمل دولية او اقليمية في المنظمات الدولية . وابرز مثال على هذا التطبيق استماتة فرنسا لتكون الفرنسية لغة للاتحاد الأوربي او لغة رسمية ضمن لغات أخرى للاتحاد .
6- نشر اللغة القومية او الوطنية في دول العالم . وأكثر من مارس هذا التخطيط الدول ذات الطموحات الاستعمارية والقادرة اقتصاديا على تمويل نشر لغاتها في العالم . وتمثل برامج الفرانكفونية والانجلوفونكية ابرز تطبيقات هذا النوع من التخطيط اللغوي .