ان الحكمة القديمة التي تقول ان العقل هو هبة من الله الينا اصبحت حكمة بلا معنى. فالعقل احيانا يزيد من توترنا ويقودنا الى دروب مسدودة.ماذا يعني هذا..؟ يعني ببساطة شديدة اننا لا نبحث عن حلول تخفف من توترنا وتعاستنا ومللنا.مثلا اذا تواعد شخص مع صديق في مكان ما.وتاخر ذلك الصديق نصف ساعة عن صديقه فان النتيجة النهائية ستكون معروفة وهي زيادة الانزعاج من تصرف ذلك الصديق.
اذا تاخر عشرة دقائق اخرى سيقوم العقل بادارة حديث داخلي ويضخم المشكلة اكثر ثم يقوم العقل بزيادة الانزعاج واقتراح نوعية التصرف التي لا بد ان يواجه بها الصديق المتاخر.العقل احيانا يفضل جملة هجومية يقولها لنا ويشجعنا على قذفها كقنبلة مرعبة في وجه الصديق حتى قبل ان يسلم علينا.قد يفهم الجميع ما اقوله وما اعنيه الان.لكننا في حقيقة الامر لا نتامل في تطور الانزعاج في اعماقنا وكيف يبدأ صغيرا كشرارة تتحول تدريجيا الى حريق كبير.
لو ان احدا مر بمثل هذه التجربة البسيطة التي يراها الكثيرون تجربة تافهة في ظل وضع خطير وغير واضح كالذي نعيش فيه.ومع ذلك فان هذه التجربة الصبيانية كما يراها البعض او نسبة غير قليلة قد تصبح بمرور الوقت طبعا غلابا.ومن هنا يكون الانسان شخصا مبرمجا على عصبية تنفجر بعد اي موقف تافه وعابر.لذلك اننا نتعجب من حالات غضب لا نراها تستحق ما تصل اليه من عنف.لكن الشخص الغاضب يراها تستحق اكثر,وانه كان عليه ان يتصرف بحدة لا رحمة فيها.
السؤال الاهم هو:ماذا يحصل في عقل الانسان اذا ركز على قضية واحدة او فكرة واحدة وهنا لدينا مثل الصديق المتاخر..؟يحدث ان الواقع يتلاشى ما عدا الاشياء التي تزيد من توتري وانزعاجي.قد لا يلاحظ اي انسان منزعج من موضوع معين كم هو وحيد ويعاني من افضل رد يواجه به صديقه الذي تاخر عن موعده بلا مبرر.
في احدى المرات صادف ان مررت بالموقف السابق اذ تاخر صديقي عن موعدنا.حدث هذا في رمضان قبل السابق,وكنت صائما والجو كفرن لا يطاق.انتظرت نصف ساعة وشعرت بتعب وعطش.حاولت ان اسير ببطء لاتحايل على عطشي واؤخره قليلا.مرت عشرين دقيقة على النصف ساعة وبدات اسير على رصيف مقابل تمثال الرصافي وهو مكان موعدنا.
كنت اذهب اجيء وانا اسمع حوار العقل او جمله المتعددة.قال لي:صديقك مهمل.ولا يحترم الوقت.اول جملة يستحقها اذا وصل هي:انت لا تقدر المواعيد ولا الاصدقاء.
كنت اغلي وشعرت بتعب في اطرافي.لم اعد اشعر بشيء من حولي ما عدا حرارة الجو التي كانت تعاقبني او هذا ما احسست به.وزاد عقلي من توتري حين اضاف جملة اخيرة وهي اني احمل امانة لصديقي ومع هذا فهو تاخر كل هذا الوقت.وكان الاجدر به يسبقني الى مكان موعدنا.لكن شيئا ما دفعني للجلوس على الرصيف..
وجلست.عندها القيت نظرة على تمثال الرصافي وكأني المح شيئا لم اره من قبل.تابعت النظر اليه وانا استعيد بعضا من ابياته وعلاقته بالجادرجي وبعض التفاصيل التي قراتها عنه. شغلني وجود التمثال المترب والمهمل عن طاقة الانزعاج السلبية وبدأ القلق وجمل العقل تتلاشى ببطء.
وفي النهاية زال الانزعاج تماما بعد دقائق وقل عطشي وتعبي.شعرت بهدوء غريب وكأن الرصافي يحدثني بلغة لا حروف لها.وحين جاء صديقي لم افجر في وجهه قنبلة العقل التي صنعها لي بل حدثته عن وضعي وما فعله بي تاملي لتمثال الرصافي المغبر.ابتسم صديقي مبررا تاخره بالزحام وهو عادة بغدادية مضافة الى بركة الديمقراطية.المهم ما زلت احس بذلك الموقف الغريب الذي يمكن تسميته بالقدرة على تغيير التوتر لمصلحتنا الشخصية وعدم جعله ينمو ويكبر فيزيد من توهاننا وانزعاجنا.
مقالات اخرى للكاتب