كان الغزو الديني الذي حط رحاله في ( بغداد ) و خيم عليها و طوقها بأسواره عندما بدأ ( صدام حسين ) حملته الأيمانية و دعوته الأسلامية ( ليس من المعروف ان كانت تلك الحملة هي صحوة ايمانية مفاجأة و متأخرة بعض الشيئ او هي ركوب الموجة الدينية العاتية في اوج ثورانها و التماشي و التكيف مع الوضع القائم و امتصاص الصدمة ) الى ان جاء الأحتلال الديني الحقيقي الذي كان عندما اسقطت القوات الأمريكية ذلك النظام و نصبت الأحزاب الدينية الأسلامية بديلآ عنه .
لم يفهم ( قادة ) تلك الأحزاب الأسلامية و ( السياسيين ) الذين يديرون شؤونها ان المدن العراقية ليست متشابهة فيما بينها انما هي مختلفة و متنوعة في طبيعتها و شكل الحياة فيها و نمط عيش السكان فهناك مدن صحراوية قاحلة ليس للمساحات الخضراء فيها شيئ يذكر فيغلب قساوة المناخ و وحشة الصحراء على سلوك اهلها و طبيعتهم الصلبة و هناك في البلد ذاته مدن زراعية متخمة بالباسقات من الأشجار و النخيل و الضلال و الجو المعتدل الذي ينعكس راحة و دعة و هدؤ في نفوس ساكني تلك المدن و هناك اخرى تطل على البحر و فيها ساحل الميناء الذي كان ضجيج الباعة الغرباء و لغاتهم المختلفة و الغير مفهومة و هي تركن مع سفنهم القادمة من كل موانيئ الدنيا فكان المواطن فيها اكثر انفتاحآ على الأقوام الأجنبية و اكثر قبولآ و تفهمآ للغرباء و هناك مدن تضم بين اروقتها اوابد الحضارات الغابرة و البنايات الشواهق الباقيات من تلك الخوالد التي تملء النفس زهوآ و افتخارآ بالماضي التليد و التأريخ الوضاء المجيد و هناك مدن كانت مأوى للعتبات المقدسة و مراقد الأولياء و الصالحين و قبلة للنساك و العباد و المصلين تجول في اركانها اصوات الأدعية و المناجاة و نفحات الدين تطمئن به النفوس و تهفو تقربآ من الخالق في اعالي السماوات .
كانت تلك مدن ( العراق ) المتنوعة و الغير متشابهة فلكل واحدة منها خاصية معينة تمتاز بها عن بقية المدن الأخرى و كل منها تتباهى و تتفاخر بتلك الخواص و المميزات و من حق اهالي تلك المدائن المأهولة و الأماكن الحضرية ان يعرضوا و يعرفوا بكل فخر ما تملكه و ما تحويه خزائن مدنهم من آثار و ثروات و شخصيات ادبية او علمية مرموقة و ان يجاهروا بهذه الممتلكات القيمة في ميزان النفائس من الثروات .
اما تلك المدينة المدورة التي جبلت على الصعاب و استقوت على النائبات و استوعبت كل هجمات الغزاة البرابرة و موجات الأحتلال و القهر و ظلت صامدة بوجهة كل الأمراض و الأوبئة و المجاعات هاهي اليوم تعيش احلك السنوات قتامة و اكثرها قحطآ و انحطاطآ لم تعرفه ( بغداد ) منذ زمن بعيد و هي الحاضرة المتحضرة التي احتضنت كل من اوى اليها و سكن حاراتها و مشى في ازقتها كانت ليست كباقي مدن العراق فهي لم تبال بأسماء القبائل و لا القاب العشائر و لم تأخذ بالآ او اهتمامآ للقومية او الديانة او المذهب فكانت متعددة اللغات و اللهجات و متنوعة الديانات و المذاهب لا تذكر ( بغداد ) الا اذا كانت منائر ( الأمام الكاظم ) الذهبية حاضرة تقابل جامع ( الأمام ابو حنيفة ) و فيها من كنائس ( المسيحيين ) العدد الوفير المتعدد و معابد ( الصابئة المندائيين ) عامرة بالمؤمنين و اماكن صلاة ( اليهود ) و عباداتهم قبل الترحيل الأجباري الذي حل بهم كل تلك المباني شاخصة تدلل على انها مدينة سامية متسامحة لا تعرف طريق العصبية او الأنعزال لانها كانت حقآ المدينة الفريدة صاحبة الفضيلة في احتضان جميع القادمين اليها من طلاب الرزق او العلم او اولئك الهاربين من جور قوانين العشيرة و ظلم القبيلة
مقالات اخرى للكاتب