المجتمع العراقي قبل اكثر من ست او سبع عقود ، كان مجتمعا متماسكا ، تشد بعضه بعضا اطر المحبة والوئام ، وتسوده العدالة والمصداقية ، اضافة الى وشائج المصاهرة ، التي جعلته صرحا واحدا لا يعرف التفرقة ولا النزاع ، الا ما ندر ، رغم شظف العيش والفقر المدقع ، وبعض المشاكل الاخرى ، يأتي على راسها مشكلة الاقطاع التي عانى منها المجتمع العراقي ما عانى في خمسينيات و اربعينيات القرن الماضي .الا ان السياسة ودهاليزها المظلمة بدأت رويدا رويدا تفكك لحمة هذا المجتمع ، وتزرع فيه بذرة التفرقة والعنصرية والطائفية والمناطقية ، لا سيما في فترة نظام البعث التي كانت بحدود ثلاثة عقود ونصف العقد من عمر الزمن ، استطاع فيها ان يرسخ مبدأ التفرقة بين مكونات المجتمع العراقي ، لغرض مخطط سياسي مرسوم سلفا .لقد كانت معظم بيوت ومنازل المجتمع آنذاك مبنية من الطين ، اذ نادرا ما تجد بيتا مبنيا من الطابوق ، وكان العامل يعمل من الصباح الباكر حتى نهاية النهار بالطين ، اذ كانوا يعملون من مادة الطين (لبن ) بجر الباء ، ويتقاضى العامل جراء ذلك مبالغ نقدية زهيدة جدا ، لكن كان فيها العامل فرحا مستبشرا ، والسبب كون الحياة كانت بسيطة بطبيعتها ، وسهلة ، وفوق هذا وذاك طيبة اهلها وناسها ، فالحياة بمعنى آخر ليست مثل ما هي عليه اليوم ، من آلام ومعاناة وفقر .
كان العامل يعمل بمصداقية وحماس وهو يغني وينشد بعض الاناشيد البسيطة مثل : (حنش يمه حنش .. يشتغل بالطين حنش .. يوميته عشرين حنش ) والمقصود بالعشرين ليس عشرون دينارا ، بل عشرون فلسا ، وهي اليوم لا تساوي جناح بعوضة . اليوم (يا فلس يا طركاعة ) ملايين الدنانير لا تستطيع ان تشتري فيها نصف قطعة في بغداد ،( فالطين وين وحنش وين) . ما فعلته السياسة اليوم بنا دعتنا نترحم على ايام حنش ونحن الى الطين وتلك الايام الخوالي ومثل ما ( كال المرحوم داخل حسن : يا ليت الشباب يعود يومين واخبره بالمشيب اشعمل بيه) . السياسة هي التي عملت بنا وليس المشيب ولو ظالة على المشيب ارحم بكثير . حنش هو نفسه اليوم ، لكن ملامحه قد تغيرت بسبب ساسة اليوم الذين ليس عندهم ، ( حظ ولا بخت ) .
ساسة اليوم عبارة عن لصوص يتاجرون بدم حنش ، لكن طيبة قلب حنش هي التي جاءت بهؤلاء الساسة الجاثمين على صدورنا . قالوا لحنش هناك شيء اسمه ديمقراطية فصدق المسكين ، وهناك صناديق اقتراع ، وهو وهو لا يعرف غير صناديق الطماطة ، لان الطماطة كان لها دور كبير في حياة حنش ، مرة يشويها ومرة يقليها بالدهن ومرة يسوي منها مرك . فذهب حنش وانتخب هؤلاء الساسة ، كان يعتقد انهم رحمانيين لكنهم طلعوا شياطين. حنش انخدع بهم وعظ ابهامه لكن شيفيد الندم . والمشكلة حنش ما يعقل بعد ان لدغ بيده بناب حية مثل حية سيد دخيل وما تاب ولا تذكر صيحة كاظم الساهر (التلدغه الحية بيده ايخاف من جرة الحبل).
مقالات اخرى للكاتب