في أواخر عمر الجبهة الوطنية في العراق أواخر سبعينيات القرن الماضي صدر كراس عنوانه ( خندق أم خندقان ) ، وربما كان هذا الكراس رصاصة الرحمة في رأس جبهة مزعزعة الاركان بين البعث والشيوعيين.
وبعيدا عن الاسباب التاريخية لقيامها وانهيارها أستذكر اصدقائي من الذين التحقوا بنا في ذلك المنفى الجميل الذي لا تنطبق عليه عبارة ناظم حكمت الشعرية : والمنفى يا حبيبتي مهنة شاقة.
لقد كان منفانا في قرية ( أم شعثه ) جميلا حين قادتنا الالفة العيش مع اهلها لنشعر بأن ارواحنا تكتشف شيئا اخرا ومفيدا كلما طالت بنا سنين الوظيفة في هذه المدرسة المكونة من سبع صرائف ألحق فيها بيتا من القصب هو سكن المعلمين .
في هذا المنفى كنا مع حياة الناس هنا في كل شيء ، حتى أن بعضنا دخل دورات صحية ليصبح طبيب هذه القرية في مداواة جروح الاطفال حين تجرح قصبة اقدامهم العارية وهم يدخلون الماء او يصاب احدهم بسعال آت من دخان ليل مواقد شتاءهم.
بعضنا كان منتمٍ بصورة رسمية في الحزب الشيوعي والبعض ميلوهم ناصرية او قومية وواحد فقط معجب حد النخاع بسيد قطب ثم تحول ليكون من جماعة الخالصي وهو مرجع معروف في الكاظمية اشتهرت مرجعيته في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.
وكان هذا المعلم الوحيد يأخذه العجب من مشاعر المعلمين ذوي الانتماء الشيوعي حين يرى اثار دمعة في اطراف اجفانهم يوم يجيئون بأحدهم شهيدا من جبهات القتال ، او تفقد القرية طفلاً من تلاميذ مدرستنا غرق في اصراره على اعادة جاموسة عنيدة الى زريبتها ، ومرات يشارك المعلمون جميعهم حزن القرية يوم نقوم نحن في اليوم العاشر من محرم ببث تسجيلا اذاعيا من الراديو الذي معنا لمأساة اليوم العاشر بصوت الشيخ عبد الزهرة الكعبي.
وقتها يتندر المعلم ذو الميول الدينية ويهمس لي : انهم يبكون اخشى أن تكون دموعهم دموع تماسيح.
قلت : عاطفة الشيوعي في قلبه لأنه صاحب مبدأ .
قال :وقلبي ايضا.
قلت :إذن احترم دمعة الآخرين.
قال :وسأبقى اشك في دموعهم.
كان المعلم يراقب حماس المعلمين اليساريين وتسكنه حيرة عندما يتطوع احدهم ليذهب الى مدينة الجبايش من اجل جلب بطاريات الراديو حتى يستمر حزن عاشوراء.
وذات يوم قال في الادارة ونحن متجمعون على مائدة اتى بها شغاتي لنذر غداء العباس: الديوك حمراء إلا تبكون حزنا وأنتم تأكلونها.
قال احدهم وقد كان يراقب بصمت كل ما يقوم به هذا المعلم من تعليقات : نحن نعتبر الأمام العباس ( ع ) ثوريا رائعا.
قال المعلم المتدين : ولكن الامام ع يعتبر ماركس ملحدا لأنه لا يعبد الله.
رد المعلم اليساري بغضب : ومن قال لك نحن لانعبد الله.
ــ انجلز وماركس.
ــ أنت تفسر الأمر بفطرة وبقشرته ، انا فخور بماركس وايضا مؤمن وفخور بالأئمة الثائرين.
ــ وتبكي لمصيبتهم.؟
ــ نعم ابكي حين يتصاعد في سماعي تخيل اللحظة الانسانية خلال موتهم.
ــ أنا متعجب.؟
ــ تعجب لوحدك هذا لا يهمني، دموعي لا تصنعها قشور البصل والثوم بل يصنعها قلبي.
هرب المعلم المتدين من قوة الرد وقال مازحا :اذن نظمني معكم.
قال المعلم : لا نريدك ابق في ما تؤمن فيه ، واحترم بكائي مثلما نحترم بكاءك...!
مقالات اخرى للكاتب