خلاصة ما بينّاه في مقالنا السابق ليوم أمس عن الشعب المصري وثورته , بأنه ليس كما وُصِف خطأً من أنه شعبُّ حيُّ وواعِ , بينما غيره من الشعوب ليست كذلك , كونها شعوباً ميِّتةً ونائمة . المسألة إن لم تكن العكس تماماً , فهي ليست كذلك في أقلّ تقدير .
حديثنا اليوم سيخصص للشعب العراقي .
الشعب العراقي شعب حيُّ وذكي ومتمرِّد .. هذه الحقيقة التي لا مراء فيها مشخّصة منذ آلاف السنين , دونتها الكتب وأقرّ بها الحكماء وتطرّق إليها المفكرون وعرفها الحكّام والمتسلطون والدول .. ولكن كل الذي حصل خلال التاريخ من إختلاف بشأنها , تمثّل في طريقة العلاج والتعامل مع هذا الشعب العنيف .
فقبل آلاف السنين ( في الحضارة السومرية والبابلية مثلاً ) كان العراقيون أسياداً , يحكمون أنفسهم بأنفسهم , وما الملك إلاّ وكان واحداً منهم وفيهم , يراقب أفعاله وتصرفاته مجلس حكم مشكلّ من أعيان العراقيين , يعاقبه كَهَنَة المعبد إذا ما أخطأ أو إعتدى . وما العبيد الذين يخدمون الأسياد والدولة إلاّ أسرى أو أُجَراء أو مستخدمون أو مُشتَرون من دول أخرى .
سياسة التعامل باحترام وكرامة مع العراقيين – كأسياد - سياسة مصاحبة للعراق , لكنها كانت متقطعة للأسف على مدى تاريخ أقدم حضارة بالعالم , ولم يخلُ عهد من العهود منها , منذ فجر التاريخ , مروراً بصدر الإسلام وصولاً إلى وقت قريب من القرن العشرين . بيد أن مشكلة الطغيان والإستبداد والديكتاتورية إنما برزت وطغت على تاريخ العراق , ذلك لتسيِّدها في مراحل تاريخية إستمرت قروناً طويلة , فأعطت ذلك الإنطباع السلبي البائس عن مشكلة الحكم في العراق , وبدا وكأنه حكم الظلم والطغيان دوماً وأبدا .
إنما المتأمل في تاريخ هذا البلد سيجد آلاف السنين أطول من مئاتها , وفترات الحرية أطول من الديكتاتورية .. فنحن نتحدث عن ( 8000 ) عاما من الحضارة , سبقت مصر الفرعونية بألف سنة , وليس عن ( 400 ) سنة من الإستعباد العثماني , أو ( 35 ) سنة من ديكتاتورية البعث .
قلنا بأن الجميع قد شخّصوا طبيعة الشعب العراقي , الذي يعيش في بلد ليس له نظير في خيراته وكنوزه , لهذا كان مطمعاً دائماً للغزاة والحكّام معاً , فمنهم مَنْ استخدم سياسة اللين والرفق والإحترام بحق العراقيين , ومنهم مَنْ استخدم سياسة البطش والقسوة والتنكيل بحقه .. بيد إن عددا من حاكميه ومستعمريه إستخدموا سياسة الخداع والتضليل والضحك على هذا الشعب , لأنهم ظنوا بأن هذا الأسلوب هو ذكاءُ منهم في تعاملهم مع شعب ذكي صعب المراس .
لو نظرنا إلى بلدنا بتجرد وبعين منصفة , لوجدناه أكثر بلدان العالم تعرّضاً إلى الغزو والإعتداء من قبل الآخرين , بغض النظر عن الأسباب والدوافع . إن تناوب الغرباء على حكم العراق ودكتاتورية بعض حكامه من شأنه أن يولِّد إختلال واضح لدى الإنسان العراقي , وبالتالي إضطراب في الرؤى والأهداف والتطلعات والمطالب , ذلك لغياب التواصل والتراكم في سياق مطالب العيش وتحقيق الحياة الحرّة الكريمة .
شواهد تاريخية قريبة :
لا نريد أن نتوغل أكثر من هذا في السرد والتحليل للتاريخ البعيد , إنما نقفز إلى شواهد من تاريخنا القريب , بعضها مظلم , والآخر مضيء . فخلال أربعة قرون من الحكم العثماني استُخدِمَت أرض العراق كغِلَّة للسلطان العثماني , وكان كل همّ شيوخ العشائر العراقية أن يزرع أبناؤها ليغذّوا جيوش السلطان , من دون أية مظاهر عمرانية أو بناء في المدن , فضلا عن بناء الإنسان العراقي ذاته , تقوم به الدولة .
لهذا لم تُعرَف أي حياة سياسية أو حزبية بالعراق , إلاّ في أواخر العهد العثماني أيام حكم الإتحاد والترّقي , وكان كل ما يحصل خلال القرون الماضية عبارة عن تمردات وثورات عشائرية ( وبعضها دينية في المدن المقدسة ) ضد الولاة العثمانيين لتحقيق مكاسب آنيّة ومادية , باعتبار العشيرة وحدة تنظيمية واضحة , من الممكن أن تقوم بدور قتالي أو عصياني وفق نظام الأوامر .
بعد دخول البريطانيين إلى العراق , ومن ثم إنتصارهم على الدولة العثمانية في الحرب العالمية الاولى , صنعوا نظاماً سياسياً عسكرياً بالعراق مكوّناً من ضبّاط سابقين في الدولة العثمانية , إلتحقوا بركب البريطانيين منذ ثورة الشريف حسين إبن علي في الحجاز عام 1916م .
نعم لا يُنكَر بأن شيئاً من الحرية والحياة الحزبية والسياسية والبرلمانية البدائية قد بدأت في العراق بعد تولي الملك فيصل الول الحكم عام 1921م , لكن مقاليد السلطة ومفاتيح الحكم كان يُمسك بتلابيبها الضبّاط العسكريون السابقون . لذا بقيت حتى ثلاثينات القرن العشرين كل مظاهر الإحتجاج والرفض والمعارضة لنظام الحكم الملكي عشائرية بدرجة أساس , مع ولادة بعض الأحزاب الوطنية وقتذاك .
أستذكر هنا الصديق حسن طالب الملاّ حمادي الذي أعدّ رسالته الماجستير – قسم العلوم السياسية عن ( التمردات العشائرية في الثلاثينات بالعراق ) بإشراف الدكتور عبد الرضا الطعّان , وكان قد حصل حينها على وثائق بريطانية تكشف عن حقيقة تلك التمردات وخفاياها , لم يتمكن الملاّ حمادي من تقديم الرسالة لوجود موانع سياسية من قبل نظام حكم صدّام حسين في ثمانينات القرن الماضي .
التظاهرات السياسية :
لم تتخذ مظاهر الإحتجاجات على الحكم الملكي العراقي الطابع السياسي التنظيمي الحقيقي إلاّ في أربعينات القرن الماضي , ذلك بعد تنامي وتغلغل أفكار الحزب الشيوعي العراقي بين صفوف العراقيين وطبقاته الفقيرة , من فلاّحين وعمّال وكَسَبَة .. فصارت الجماهير العراقية تخرج في مظاهرات حاشدة ومنظّمة إلى الشوارع , مطالبة بحقوقها , ومعلنة عن مواقفها السياسية إزاء الأحداث والتطورات السياسية .
بيد إن هذا الرأي الذي نزعمه لا ينفي تاريخ ووجود الأحزاب التي سبقت , ولا يقلل أبداً من شأن التظاهرات والإحتجاجات التي لحقت في خمسينات القرن الماضي . فلقد صار باستطاعة الأحزاب القومية والناصرية المشاركة والتبني للتظاهرات الجماهيرية , وإنزال الناس إلى الشوارع , سيّما بعد نشوء تلك الأحزاب ونجاح إنقلاب جمال عبد الناصر في مصر عام 1952م .
نستطيع الزعم بان هذا الحال إستمر في العراق حتى مجيء البعث مرة أخرى إلى الحكم عام 1968م . وبغض النظر عمّا جرى خلال فترة حكم أحمد حسن البكر في العقد السبعيني من تشكيل لجبهة وطنية سياسية شكلية ضمّت عددا من الأحزاب , بدأت فترة القمع والمنع وإقصاء الأحزاب السياسية من الساحة خلال حكمه , حتى تتوّجت تلك السياسة بانفراد صدّام حسين بالسلطة في العراق عام 1979م , ويومها حدثت الطامة الكبرى .
مسيرات لا تظاهرات :
لم يعد في العراق خلال حكم صدّام مسموحا لوجود أحزاب أو منظمات سياسية , باستثناء حزب البعث العربي الإشتراكي , فضلاً عن ممارسة دورها السياسي . ولم يعد هناك أي ذكر لتظاهرة معارضة للحكم أو مطالبة بحقوق سياسية أو ثقافية أو إجتماعية , بل حلّت ثقافة المسيرات المؤيدة للسيد الرئيس وللحزب والثورة . حلّ حكم الحزب الواحد والولاء لصدام .
لقد دُمِّرَ العراق سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً . قُضي على الأحزاب , وتحولنا إلى دولة محارِبة في المنطقة . وتوزّع معارضو الحكم بين معدوم أو مسجون أو متخفِّ أو هارب إلى خارج العراق , وانقطع حبل الوصل بين الداخل والخارج .
( 24 ) أربع وعشرون سنة من التعتيم الإعلامي على العراقيين , وتغييب كامل عن سماع أو مشاهدة حقيقة ما كان يجري في العالم الخارجي من تقدّم وتطوّر . ( 24 ) أربع وعشرون سنة من الكبت والحرمان والمسخيّة للإنسان وكرامته , من التجويع والإذلال والإمتهان لآدمية البشر , من التبعيث الكامل للشعب والمؤسسات والدوائر .
ونحن في منتصف العهد من حكم صدّام ثار العراقيون عام 1991م ضد نظام حكمه , بعد هزيمة منكرة لقواتنا في حرب الخليج الثانية .. يومها عمّت التظاهرات شوارع المدن الثائرة وهي تهتف ( يصدّام شيل إيدك .. شعب العراق ميريدك ) بيد أن تلك الفرحة , تلك الممارسة الغائبة طويلا لم تستمر إلاّ أياماً , لتعبّر عن مخزون هائل من الحقد والكراهية والمعارضة لنظام إستبدادي بشع , سرعان ما خمد أُوارها وخبا جمرها وانطفأ لهيبها وبرد سَعْرُها من خلال الإجهاز عليها بطريقة بشعة .
عصيان الصدر الثاني :
في عام 1998م إستغل الشهيد المقدّس السيد محمد محمد صادق الصدر سياسة صدّام المتمثلة زيفاً وكذباً بالحملة الإيمانية , وصار يطرح مشروعه الإصلاحي التوعوي من خلال منبر مسجد الكوفة . وفي خطبه ليوم الجمعة راح يدعو للعصيان والتظاهر والمطالبة بالحقوق المدنيّة ( للمزيد أنظر كتابنا : إغتيال شعب , طبع لندن , سنة 2000م ) وقد إستجابت جماهير المصلّين لنداءاته وخطبه . وحصلت حالات عصيان وتظاهرات في مدن عراقية عدة , وبمجرد أن إستشعر صدّام الخطر الداهم إغتال الشهيد المقدّس ونجليه ليئِدَ المشروع الإصلاحي في مهده .. إستمر الحال هكذا حتى مجيء الأميركيين إلى العراق عام 2003م وإسقاطهم حكم صدّام .
( ملاحظة : يتبعها الحلقة الأخيرة )