لماذا أسقَطَت الولايات المتحدة صدّام حسين ؟
سؤال ظلّ يلاحقني أينما حللت , ويتتبعني متى ما تواجدت , في كل مجلس وموعد ولقاء واجتماع , بمناسبة أو من دونها , في الحِلِّ والترحال , في الرسائل وعلى الفيسبوك وفي الإيميل الخاص . وفي كل مرة أجيب عليه , أو أمتنع بما يليق ويتناسب مع مقام الحاضرين ومكانهم الجالسين فيه .
بات هذا السؤال أكثر إلحاحاً وتكراراً مؤخرا , بعد إزدياد اللغط واللغو جرّاء كثرة المزاعم الكاذبة والإدعاءات الباطلة والبطولات الفارغة , التي يستعرضها من جهة حكّام العراق الجدد من معارضي النظام السابق , سواء في مقارعتهم له أو سعيهم لإسقاطه من خلال القوى الدولية , وأيضاً من خلال عدم التصريح الأميركي بحقيقة دوافع القرار الذي إتخذه جورج بوش من جهة أخرى .
أما لماذا يُوَّجَه السؤال إليَّ تحديدا ؟ فالجواب لكوني قدتُ الحملة الإعلامية لإطاحته , وواجهته بالسلاح الذي ظلّ يحاربنا فيه طوال سنوات حكمه البغيضة , ألا وهو سلاح الإعلام .. حتى أصبح ذلك تراثا مصوّراً ومسجّلاً يؤرق ( حكّام ما بعد صدّام ) لا يستطيعون إنكاره . لهذا حاول البعض – كي يتحرر من هذا الثقل - أن ينكر دوره في الدعوة إلى إطاحة النظام السابق , ليبرئ نفسه من الجرائم التي إرتكبها هو نفسه , أو إرتُكِبَت بحق أبناء الشعب العراقي بعد سقوط صدّام , وليتقرّب تزلّفاً وبشكل ذليل إلى الذين وقفوا بالضد من عملية إسقاطه .
أما مَنْ هو مثلي فلا يخاف ولا يتهيّب من تحمّل المسؤولية في الدعوة إلى إسقاط صدّام وإطاحته , ومَنْ يريد أن يناظرني في ذلك , فالشاشات الفضيّة تملأ سماء العراق , وليس عليه إلاّ أن يجلس أمامي ليدلي برأيه , ثم نترك الحكم النهائي للشعب العراقي . أما هذا المقال فهو ليس المكان المناسب الآن لإستعراض تاريخ صدّام , ولا للنقاش حول صحة قراري من عدمه .
كان رأينا نحن المعارضين الحقيقيين هو إسقاط صدّام , بغض النظر عمّا إذا ما آلَ الحكم لنا أم لغيرنا , لأننا إعتبرنا مشكلة العراق وعقدته تكمن وتتلخص في شخص الديكتاتور المستبد , لا في غيره , وحين يسقط هو سيهون ويسهل كل شيء .
لم يكن باستطاعتنا نحن العراقيين إسقاطه , ومَنْ يدعي خلاف ذلك سيستعطفني لإغداق الشفقة عليه والرأفة به . لقد جربنا كل المحاولات , من محاولة الإغتيال الفردي لشخصه , إلى الإنتفاضة العارمة ضده , مرورا بالمحاولات الإنقلابية المتعددة عليه وعلى نظامه .. كلها باءت بالفشل الذريع . هذا ناهيك عن التآمر عليه بتواطؤ المعارضة مع الدول الإقليمية والعالمية الأخرى .
لم يكن أحد في العالم يتجرأ أو يستطيع إسقاطه , باستثناء الولايات المتحدة . وأي الولايات المتحدة ؟ تلك التي يرأسها جورج بوش الإبن فقط , وليست تلك التي يرأسها جورج بوش ( الجمهوري ) الأب , أو بل كلنتون أو باراك اوباما ( الديمقراطيّان ) ! ولو ظلّ الأمر بيد الديمقراطيين , لبقينا إلى اليوم نئن ونجأر من حصار مقيت وسياسة تجويع وتشريد وإبادة كاملة لشعب عريق من قبل المجتمع الدولي الحقير , وعلى رأسه الولايات المتحدة .
( دعوا عنكم ما يجري الآن في العراق , من قتل واغتيال وتشريد وتهجير ونهب وتجهيل وتسخيف وتسفيه للعراق ولمجتمعه من قبل حكّامه الجدد .. دعوا عنكم هذا ولا تعلّقوا عليه ولا تذكروه هنا , لأننا يوميا نكتب عن هذا الموضوع , ولم ننقطع عنه لحظة , إنما أنا أحدثكم الآن عن أيام صدّام - أيام المعارضة - لا أيام الحكم الحالي .. فلينتبه البعض ولا يستعرض في تعليقاته السخيفة " حاشا الجميع " وطنياته وبطولاته الفارغة وأحقاده وملامته .. بل عليه أن يستفيد مما نكشفه له ويفهم , بدلاً من أن يلغي ويهذي ويلقي المحاضرات التافهة في رؤوسنا ) .
هذه الدولة – الولايات المتحدة – جاءت إلى المعارضة العراقية في عام 2002 م وقالت لأطرافها المرتبطة بها : في هذه المرة نحن جادّون لإسقاط صدّام , وما عليكم أنتم المعارضين إلاّ أن تؤيدوننا في مسعانا , لأن الدول النافذة في مجلس الأمن ( روسيا , الصين , فرنسا ) ستكون ضدّنا , وليس معنا سوى بريطانيا .
كانت الولايات المتحدة قد دخلت إلى المعارضة العراقية خلال حرب الخليج الثانية على العراق عام 1991 م , ثم إتضح أمر دخولها بقوة عام 1992 م من خلال تأسيسها للمؤتمر الوطني العراقي وتبنيها للدكتور أحمد الجلبي كرئيس لمجلسه التنفيذي , وكذلك عن طريق الوفاق الوطني بأمانة الطبيب أياد علاوي , وليس وفاق صلاح عمر علي التكريتي , حيث إنشطر الوفاق الوطني الذي أسسته المملكة العربية السعودية في الرياض عام 1990 م إلى وفاقين , أحدهما شيعي والآخر سُنّي .
بينما ضربت الولايات المتحدة صديقها وحليفها عميد المعارضة العراقية الأستاذ سعد صالح جبر , ولم تلتفت إليه ولم تشركه معها في مشروعها الجديد - الذي يتعارض مع مشروع سعد - لا بل أحبطت أكبر وأهم محاولة إنقلابية كادت أن تنجح بداية التسعينات ضد صدّام حسين , قادها سعد صالح جبر , ونسّقها الشهيد الشيخ طالب السهيل , وكان ضحاياها جاسم مولود مخلص والطبيب راجي عباس التكريتي وآخرون ( رحمهم الله جميعا ) من خلال وشايتها لصدام بتوقيتها وأسماء عناصرها .
السبب السرّي في كل ما جرى وفيما سيجري لاحقا وحتى إسقاط صدّام , هو تحالف بعض مَنْ يسمون جزافا ب "سيّاسيي الشيعة " مع الولايات المتحدة . وكل مَنْ يزعم أو يدّعي خلاف هذا , فهو أحد إثنين , إما إنه جاهل بالسياسة يحتاج منّا إلى أن نعلّمه إياها , أو هو يعرف هذه الحقيقة , ولكنه يريد طمسها وإخفاءها لغاية في نفسه أنا أعرفها تماما .
حينما جاءت الولايات المتحدة إلى المعارضة العراقية , وقالت لها نحن جادّون هذه المرة في إسقاط نظام صدّام , سألها بعض المعارضين : وماذا عن مستقبل الحكم وشكله وطريقته في العراق ؟ ردّوا : لا عليكم , وكل ما هو مطلوب منكم الآن هو أن تعقدوا مؤتمرا لكم , وتخرجوا ببيانكم الختامي , وفقا لحصصكم التي توافقتم عليها وتقاسمتموها منذ مؤتمر فيينا في حزيران عام 1992 م , ومؤتمر صلاح الدين في تشرين من العام نفسه .
لماذا أسقطت الولايات المتحدة صدّام حسين ؟
ظلّت الولايات المتحدة تتحكّم بمعظم المعارضة العراقيّة طوال العقد التسعيني من القرن العشرين , وعيّنت سفيراً لها ينسِّق بينها وبين الإدارة الأميركية بعد صدور قانون تحرير العراق من قبل الكونغرس عام 1998 م , هو السفير فرانك ريتشارد دوني ( سفير الولايات المتحدة في مصر لاحقا وتركيا الآن ) ثم حلّ محله زلماي خليل زاد ( الأستاذ في الجامعة الأميركية قبل السفارة , وتاجر السيكاير والنفط مع العراق الآن ) .
عاشت المعارضة خلال النصف الثاني من التسعينات حالة من اليأس والإحباط والإستسلام في الخارج , بشكل يُرثى لها , يقابلها تدمير شعب كامل في الداخل بصورة مفزعة . في الحادي عشر من شهر أيلول عام 2001 م ضرب أسامة إبن لادن برجي التجارة في نيويورك وأحالهما ركاما . جنَّ جنون أميركا وذهل العالم أجمع , وخرج المارد الأميركي من قمقمه يدمر طالبان والقاعدة في أفغانستان .. نعم أطيح بحكمهم وتحكمهم , ولكن لم يتم القضاء عليهم , حيث جبال تورا بورا وباكستان الراعية الداعمة للقاعدة وإبن لادن .
هنا لابدّ من التفكير الأميركي باستراتيجية أخرى تماما .. من أرض منبسطة ليس كتورا بورا الجبليّة الوعرة , يتمّ مقاتلة القاعدة عليها من قبل الأميركيين أول وهلة , ولابدّ من طائفة مسلمة تقاتل الإسلاميين المتشددين أعداءها . أما الأرض فهي أرض العراق المنبسطة , وأما الطائفة فهم الشيعة , تساعدهم إيران وسوريا لوجستياً , من خلال تسهيل دخول عناصر القاعدة إلى العراق عبر البلدين الجارين , وسيمكن تجنيد الصحوات السُنيّة لمساعدة الأميركيين في قتالهم لاحقا مقابل الأموال .
في هذه النقطة قد تمّت الإجابة على السؤال : لماذا أسقطت الولايات المتحدة صدّام حسين ؟ وكل ما سنشرحه الآن هو تعزيز للإجابة ليس إلاّ .. إذاً لابدّ من إسقاط نظام صدام تحت أيّة ذريعة , صادقة كانت أم كاذبة , وافق المجتمع الدولي أم لم يوافق , صدر قرار من الأمم المتحدة أم لم يصدر .. فالمارد قد خرج من قمقمه ولن يعود إليه حتى يدمّر !
في مذكراتهما التي أُعلِنَ عنها بالتزامن عام 2010 م باللغة الإنكليزية , ولم تُتَرجم إلى اللغة العربية بعد , يتفق الرئيس جورج بوش في ( لحظة القرار ) مع رئيس الوزراء البريطاني توني بلير في ( الرحلة ) ويسبقه في ذكر أسباب عدة لقرار شنّ الحرب على صدّام وإطاحته .. منها الحديث عن معلومات إستخبارية لامتلاكه أسلحة الدمار الشامل واستخدامه إياها ضد شعبه , ومنها دعمه للإرهاب , والتفافه على القرارات الدولية , وتضليله فرق التفتيش , وشنّه الحروب على دول الجوار , فضلا عن قمعه لشعبه وانتهاكاته المستمرة والفظيعة لحقوق الإنسان بالعراق .
لم تكن تلك هي الأسباب الحقيقية مطلقا . كما نحن في المعارضة العراقية , لم يكن من مهماتنا , ولا من مسؤولياتنا البحث عن مشروعية الأسباب وصدقيتها لإطاحة صدّام , إنما كل ما كنّا نصبو إليه ونعمل من أجله هو إطاحته .. وإطاحته فقط .
نعم .. ربما سيقول أحدهم بأن الأسباب الحقيقية وراء غزو العراق هي أسباب إقتصادية بدرجة أساس , أو تنفيذاً لمشروع الشرق الأوسط الكبير كمخطط لتفتيت المنطقة , أو ضمانا لأمن إسرائيل , أو ... إلخ . نحن لا نعترض على هذه , إنما نُدرِجها ثانياً بعد ما ذكرناه نحن أولاً .
تلك السياسة الأميركية التي لم تفصح عنها الولايات المتحدة , وأبقتها مبهمة , دلل عليها مؤشران خطيران لم يلتفت إليهما أحد , أو يتوقف عندهما .
الأول : ستة خطابات إذاعية , ومثلها متلفزة وتصريحات للرئيس الأميركي جورج بوش ( الإبن ) تحدّث فيها عن إستدراج القاعدة إلى العراق ومقاتلتهم على أراضيه , بدلاً من أن يهددوا الولايات المتحدة على أراضيها , مثلما حصل في سبتمبر .
الثاني : 3 ثلاثة رؤساء وزارات عراقيّة زاروا الولايات المتحدة الأميركية , وأعلنوا أمام ممثلي شعبها ( الكونغرس ) أو الأمم المتحدة تعهدهم في مقاتلة القاعدة , كجزء من إلتزاماتهم للأميركيين الذين جاؤوا بهم لحكم العراق , مما يحدو بأعضاء الكونغرس للوقوف أمام المتعهدين للتصفيق لتعهداتهم .
لم تقصّر الولايات المتحدة ولم تألوا جهدا في تنفيذ تلك السياسة , إذ تركت الحدود مفتوحة بعد إحتلالها العراق عام 2003 م – وما تزال – من جميع الجهات , كما لم تقصّر كل من إيران وسوريا في تجميع وتدريب , ومن ثم إدخال عناصر القاعدة إلى العراق , لغرض القيام بالمطحنة .
ظلّت القوات الأميركية مع القوات العراقية والصحوات تواجه القاعدة على أرض العراق , وعلى حساب الشعب العراقي , وحين أرادت الخروج من العراق قبل أقل من عامين , وفقا للإتفاقية المعقودة بين البلدين , رأت بأن العراق ليس دولة محترمة يُحسب لها ذلك الحساب , وإنّ قواته مهزومة ومهزوزة ليست أهلاً للقيام بمهمة مقاتلة القاعدة بالنيابة عنها , لذا كان لابد من البحث عن بديل شيعي يقوم بالمهمة على أحسن وجه , ودون كلل أو ملل , فكانت سوريا بالطبع .
سوريا دولة قوية وتمتلك جيشاً مدرباً ولديها أسلحة مكدّسة غير مستخدمة , هي مَنْ تقوم بقتال القاعدة , على أن تدعمها إيران الشيعية لوجستياً , والعراق الشيعي مالياً , وحزب الله اللبناني عسكرياً .. هذه السياسة الأميركية المقيتة بتقسيم المنطقة طائفياً , هي التي تفسِّر الموقف الروسي والصيني الرافض لها , وبالتالي تبنيهما لسوريا . وعليه ومنذ اليوم الأول للقتال في سوريا قلنا ذلك مكتوباً ومعلناً , بأن مَنْ يعوّل على سقوط النظام السوري فهو واهم ومخدوع .. لن يسقط وسوف تستمر المعركة .
وأما بلدنا العراق فسيُستَنزَف ويضعف , ويستمر العبث فيه , وتُسرَق أمواله , وتُصادر ثرواته , ولن يُبنى في المستقبل القريب , ولن يحصل أي تطوّر فيه . لقد أسقطت الولايات المتحدة الأميركية صدّام حسين , وسلّمت الحكم إلى المحسوبين على الشيعة من عملاء إيران , ذلك لكي يتعاون الحكّام والمتنفِّذون الشيعة في المنطقة ( إيران والعراق وسوريا ولبنان ) من أجل مقاتلة القاعدة بالنيابة عن الولايات المتحدة .. هذه هي قصة إسقاط صدّام حسين .