لا نذهب بعيدآ في اعماق التأريخ السحيقة انما نتجول في القريب منه , فبعد سلسلة من الأمراض الوبائية المخيفة التي اجتاحت البلاد و ازهقت ارواح مئات الألوف من الناس و تركت الباقي يرزح تحت نير الفقر و المجاعة و العوز الى استعمار اجنبي غارق في التخلف و الجهل ( سئل احد ولاة هؤلاء عن سبب الحر الشديد في هذه البلاد قيل له و على سبيل الدعابة انه من اجل ان تطبخ التمور جيدآ فرد عليهم بكل بلاهة اذن اقطعوا النخيل ) ما ان رحل هذا المحتل تاركآ هذه البلاد انقاض بنايات و اشكال هياكل لبشر لا يفكون الحرف و لا يبدأون السطر .
مع ذلك استبشر ساكنوا البلاد خيرآ في غريب آخر قادم فالمحتل الجديد جاء من وطن الثورة الصناعية حاملآ معه و بكل تأكيد رسالة تلك الثورة العلمية التي سوف يبشر بها و ينشر تعاليمها التي تعم الجميع و تنتقل معها البلاد و ينتقل كذلك العباد الى مصاف الدول المتحضرة و المتمدنة و بدلآ عن هذا بدى لقائد الأحتلال الجديد ان التقرب من الناس اكثر فائدة له و لتاج بلاده فأعلن اسلامه المزيف و أخذ بالصلاة خلف احد ائمة الجوامع و بدل ان يتعلم الناس اللغة الأنكليزية لغة العلم و العالم تعلم هو اللغة العربية بركاكة و رطانة .
اخيرآ رفع لواء الأستقلال و تخلصت البلاد من المحتل و المستعمر المتخلف منهم و المتحضر , لكن هذه المرة كان هناك شئ لم يكن في الحسبان اذ لم يستطع القوم من الحصول على ملك لهذه الدولة الحديثة من ابنائها و بعد جدل و شد و جذب و احصاء و جرد لسكان البلاد لم يكن هناك من مناص و لا خلاص الا الأستيراد و من هنا بدأت فكرة استيراد الأفكار و الأفراد و التي ما زالت مزدهرة لحد الآن , بالعودة الى الحكم و شؤونه فقد اجتمعت الآراء بعد ( التي و اللتيا ) ان تكون مواصفات ملك البلاد العتيد عربي المحد هاشمي النسب شريف في قومه مشهود له بالحكمة و الشجاعة فكانت تلك الصفات تنطبق على احدهم في جزيرة العرب فجئ به ملكآ متوجآ له السمع و الطاعة كما قيل له و الملك من بعده لابنائه كما اتفقوا و هكذا الى ان يرث الله الأرض و ما عليها .
لكن هذا لم يحدث و قد نكث الموقعون على الوثيقة بعهدهم و لم يحسنوا اليه او الى من خلفه من احفاده فقد انبرى احد الضباط النزقين في تجريب حظه عسى ان يكون كزميله في بلاد بعيدة لا تشبه كثيرآ بلاده استطاع فيها ان ينصب نفسه حاكمآ و لم لا ان تكون هنا كذلك اذا كان الأمر مجرد تحريك بضعة من الدبابات و قليل من الآليات و الباقي تتكفل به جموع الغوغاء المنفلتة من عقالها و الغير قابلة للانضباط و التعقل . و هكذا بدأت مشاهد السحل و السلخ و التقطيع في الشوارع و يجري البحث في الأزقة عن شخص كان العالم كله ينظر اليه على انه احد القادة الأفذاذ البارعين في مجال الحكم و السياسة الا ان الذين هنا يرون فيه مجرد مجرم فلاحقوه الى ان اصابوه في مقتل .
اخيرآ اجتمع القتلة بعد ان دفنوا قتلاهم ( هذا لك و تلك لي ) و لكن كما هم اللصوص لا يتفقون على غنيمة كذلك القتلة تظل دماء ضحاياهم تلاحقهم و كأنها اشباح تحلق فوق مناماتهم و هكذا كان فمن انقلاب يقتل سابقيه الى آخر يفتك بما قبله و ما زالت الدائرة تدور الى ان جاء من لجم الجميع بدمويته , لم تعرف عنه الرحمة يومآ فقتل الكثير بدعوى الشك و الشبهة الى ان وصل الأمر به ان قتل صهره و كاد ان يفتك بأبنه لولا البقية الباقية من عقل العصابة التي تحيط به , يبدو ان هذا الحاكم حث نفسه يومآ عن سبب كثرة المواطنين في بلده بعد ان قتل الكثير منهم بحجة انهم معادون له و لحكم قبيلته و مع ذلك بقي الكثير منهم فتفتق ذهنه الجهنمي عن فكرة عبقرية هي اذن الحرب التي لا تشبع من الوقود الآدمي و بدأت النار تلتهم كل شئ و كانت حروبآ ممستمرة ما ان تنتهي واحدة حتى تبدأ الأخرى حتى ظن الناس ان لا نهاية لتلك الحروب .
مع القرن الواحد و العشرين تيقن الناس ان لا أحتلال عسكري مباشر سوف يحدث كما كان عليه الأمر في القرن الماضي الا ان مغامرات حاكمهم هذا و تهوره ابت الا ان تذيقهم مرارة الأحتلال و ذله من جديد لكن هذه المرة لم تكن من دولة واحدة انما العالم كله جاء بجيوشه و عسكره و ازاح ذلك الحاكم و اسقطه و هوت البلاد كلها في حرب اخرى فيما بينهم انفسهم فكانت اكثر دموية ووحشية من سابقاتها من الحروب و ما زال حريقها يكبر و يتسع اكثر فأكثر و سوف تأتي على ما تبقى من اطلال هذه البلاد اذا لم يتدارك حكماء الشعب و عقلائه الأمر .