ارتبط العهد الجمهوري في اذهان العراقيين بالكثير من المعاناة و عدم الأستقرار فكانت الأنقلابات العسكرية تتوالى بعد ( ثورة 14 تموز ) و كانت هذه الأنقلابات ذات صبغة دموية حيث تقام محاكم ثورية سريعة تصدر احكامها بحق مؤيدي النظام الذي سبق الأنقلاب القائم و كانت غالبآ ما يكون حكم الأعدام هو المفضل لدى القادة الجدد بحق الذين سبقوهم و هكذا كان للجمهورية في العراق وقع غير طيب في نفوس العراقيين و لو نظرنا الى الأمر بموضوعية فأن العيب لا يكمن في الجمهورية كنظام حكم متبع في اغلب دول العالم الديمقراطية و ليس هناك ما ينتقص منه انما العيب و المشكلة في الحكام الغير شرعيين الذين سطوا على القصر الحكومي و سرقوا السلطة بقوة السلاح .
القصة تبدأ فصولها في يوم ( 14 تموز من العام 1958 ) عندما قامت شلة من ضباط الجيش بحركة عسكرية غير محسوبة النتائج و العواقب بحكم ان قادة التغيير هم من العسكريين الذين لا يفقهون من امور السياسة شيئآ و لا يفهمون اساليبها الملتوية و المراوغة انما صميم عملهم ينحصر في الدفاع عن الوطن و حماية حدوده و صد العدوان الأجنبي في حالة حدوثه , و لو كان هؤلاء الضباط صادقين نواياهم و لم تتملكهم شهوة الحكم و اغراء المنصب لكانت حركتهم هي فقط للضغط على الملك من اجل منح المزيد من الحريات و اجازة الأحزاب جميعآ و اقامة انتخابات حرة و نزيهة بمراقبة دولية و لتكن صناديق الأقتراع هي الحكم و الفيصل .
ان المدافعين عن قادة الحركة العسكرية في 14 تموز و نحن كذلك لا نشكك في نزاهتهم المالية و تعففهم و بعد اياديهم عن المال العام و كذلك صفاتهم الحميدة الأخرى مثل الشجاعة و الأقدام و البساطة في المأكل و الملبس و امور اخرى عديدة , كل هذه الصفات بلا شك هي جيدة و حسنة و لكنها لا تصنع من العسكري سياسيآ ماهرآ يفهم الاعيب السياسة و مكر السياسيين و دهائهم و بالتالي تجعل منه ( الضابط ) محاورآ بارعآ و مناورآ ماكرآ مع الآخرين في انتزاع حقوق بلاده و حفظ و صون مصالح شعبه كاولئك الساسة الأفذاذ الذين سبقوا ( جمهورية العسكر ) و قادتها من الضباط .
كان العراق في الفترة التي سبقت سلطة الجيش و سطوته على الحكم من الدول التي يحسب لها اكثر من حساب ليس للأمكانات المالية او العسكرية التي يملكها انما بعقول اولئك القادة الذين جعلوا من بلدآ فقيرآ في الموارد ( وقتها ) قويآ منيعآ ذو دور محوري في المنطقة حتى ان حلفآ عسكريآ تشكل من دول اقليمية قوية مثل (ايران ) و ( تركيا ) و ( باكستان ) بأيعاز من ( بريطانيا ) و بقيادة ( العراق ) و سمي ( حلف بغداد ) , كما ان النظام الملكي لم يتعامل مع خصومه و اعدائه بتلك القسوة الشديدة التي عومل بها قادته يوم سقوط نظام الحكم الملكي عندما سحلت و مزقت جثة واحد من اهم الساسيين ليس على مستوى العراق او الدول العربية انما على المستوى العالمي الا و هو السياسي اللامع ( نوري السعيد ) رئيس الحكومة العراقية و لعدة دورات وزارية .
امتاز العهد الجمهوري في العراق و منذ تأسيسه بعدم الأستقرار و العشوائية و الأرتجال في تشريع القوانين مما خلق وضعآ قلقآ و مرتبكآ انعكس سلبآ على كل نواحي الحياة السياسية و الأقتصادية و الأجتماعية لعموم الشعب فكان التناحر بين الأحزاب قد وصل الى مديات خطيرة من الأقتتال المسلح فيما بينها و غصت السجون و المعتقلات بالالاف من اعضاء هذا الحزب او مؤيدي ذاك و مورست بحقهم اشد انواع التنكيل و التعذيب الجسدي و النفسي و سيق المئات الى ساحات الأعدام ليموتوا فيها شنقآ او رميآ بالرصاص و عندما لم تكتف تلك الطغم العسكرية الحاكمة من هؤلاء الضحايا شنت العديد من الحروب العدوانية الداخلية و الخارجية و التي اتت على من نجا من تلك السجون و ساحات الموت و المقابر الجماعية .
ان الحلم بدولة عادلة و مسالمة قد ذهب ادراج الرياح مع حكومات الأنقلابيين العسكر المتعاقبة و الغريب في الأمر ان البعض من ( السياسيين ) كان يطلب من الضابط الذي تخرج من مؤسسة لا تعرف الا الطاعة العمياء للأوامر و تنفيذها بكل حزم و قوة تحت طائلة العقوبات العسكرية الصارمة يطلب منه ان يكون ديمقراطيآ يؤمن بالتعددية الفكرية و الأنتخابات البرلمانية و التداول السلمي للسلطة .
بعد كل تلك السنين الطويلة من الحكم ( الجمهوري العسكري ) و بفضل هؤلاء ( الحكام ) يقف العراقيون اليوم على بقايا دولة و حطام شعب ينحدر نحو التفتت و الأنقسام الذي هو واقع لا محالة الا اذا حصلت المعجزة .
مقالات اخرى للكاتب