انتهت الأزمة السوريّة من دون توجيه ضربة عسكرية لسوريا , وانكشف الإعلام العربي المُحَرِّض على الضربة معها انكشافاً فاضحاً , لدرجة الإفلاس والسقوط المريع . وباتت الوجوه المكفهرَّة التي أطلّت على شاشات التلفزة العربية – طوال الشهور الماضية – وجوهاً مقززة مقرفة , تثير الإشمئزاز والحنق لدى مشاهديها .
ليس حديثنا هنا عن تلك الوجوه التي ألفنا أكاذيبها وتحليلاتها الخائبة , ولا عن الموقف السياسي السلبي , أو الإيجابي اتجاه نظام " بشار الأسد " فذلك أمر لا يعنينا , إنما الذي يهمنا الأداء الإعلامي العربي خلال الأزمة , مقارنة بالإعلام الأجنبي .
لقد انقسم الإعلام العالمي والعربي إلى ثلاثة اتجاهات رئيسة :
1 – إعلام مُحَرِّض على الضربة .
2 – إعلام معارض للضربة مساند لنظام " بشار الأسد " .
3 – إعلام محايد .
لقد مثّل النوع الأول من الإعلام تمثيلاً دقيقاً الإعلام العربي , وعلى رأسه قناتا " الجزيرة " القطريّة و " العربيّة " السعوديّة , بالإضافة إلى سائر القنوات العربية والمحلية التابعة للحكومات العربيّة والمسايرة لسياساتها , المحرِّضة ضد نظام " بشار الأسد " والمهللة للضربة العسكرية .
أما النوع الثاني فقد مثّله الإعلام المساند للنظامين السوري والإيراني , فضلاً عن الروسي الناطق بالعربيّة . وأعني تحديداً قناة " المنار " التابعة لحزب الله اللبناني , وقناة " الميادين " الحديثة النشأة والإنطلاقة , الممولة من قبل إيران , وقناة " روسيا اليوم " التي أصبح لها وجود مؤثر على العقل العربي , لا يقلُّ تأثيره عن دور روسيا الدولة في السياسة الدولية .
بالنسبة للنوع الثالث فقد مثّله بدرجة أساس الإعلام البريطاني الناطق باللغتين الإنكليزية والعربيّة . وما يخصُّ الأخيرة كانت قناة " سكاي نيوز العربيّة " أكثر حيادية بدرجة واحدة ملحوظة من قناة " البي بي سي العربي " على الرغم من أن الاولى تبثُّ من دولة الإمارات العربيّة المتحدة , بينما الثانية تبثُّ من لندن !
ديدن الإعلام البريطاني الذي لا يمكن أن يفهمه أي إعلامي عربي , حتى لو كان كبيراً , أو مشهوراً , أو مهنيّاً محترفاً , هو أنه دوماً وأبداً لا يطرح وجهة نظر واحدة , حتى وإن كان يتبنى تلك الوجهة , إنما يطرح وجهتي نظر لأية قضيّة , أو موضوع .. أي بمعنى آخر يطرح الرأي والرأي الآخر .
الغرض من هذه السياسة الإعلامية كي لا يترك مجالاً لنقده من قبل الآخرين , وإثباتاً لصدقيَّته ومهنيَّته وحرفيَّته . ولهذا كان الإعلام البريطاني دائما يسبق السياسيين والإعلاميين الآخرين . بيد إن هذا التقييم لا يعفيه من النقد والأخطاء والملاحظات , ليس أحياناً , وإنما في كثير من الأحيان . ولكنني لستُ هنا في وارد الإستدلال على إبداء الملاحظات على الإعلام البريطاني , ربما ذلك يحتاج إلى مقال مستقل نكتبه في فرصة أخرى .
وفي الوقت الذي غيَّبَ فيه الإعلام العربي المناوئ للنظام السوري وجهة نظر هذا النظام تغييباً كاملاً متعمداً , ما أفقد هذا الإعلام نزاهته وموضوعيته , برزت لنا وجهة نظر النظام السوري في الإعلام المساند والمؤيد له , وكان باستطاعة المشاهِد العربي أن يشاهدها ويستمع إليها بوضوح في ( المنار والميادين وروسيا اليوم ) . بينما أطلت هذه الوجهة خجولة أحياناً في الإعلام المحايد , وليست قوية وصاخبة وعالية .
ومن وجهة نظر إعلامية بحتة , أقولها للتاريخ : إن صوت المعارضة السورية كان أعلى وأقوى وأصخب من صوت النظام الحاكم . فالسوريون كنظام كانوا طوال حكمهم لسوريا - منذ عقود - يسوسون السوريين من دون صخب وضجيج .. أي بهدوء . ولم يكن مَنْ هو أهدأ وأسكن منهم في سنوات ما قبل الثورة إلاّ المعارضة السورية , على رغم فترات ضجيج السلاح وعصفه في مطلع ثمانينات القرن الماضي , أيام الصراع المسلَّح مع الإخوان المسلمين .
يمتاز السوريون بالفشل الإعلامي الواضح . ويبدو إن هذا هو الذي حقق لهم في نهاية المطاف " النصر السياسي " أكرر " النصر السياسي " وليس الإنساني , ولا الأخلاقي , ولا غيره ولا هم يحزنون .
يقابل هذا النصر هزيمة إعلاميّة عربيّة منكرة لكل الإعلام المُطبِّل والمُزمِّر للضربة والحرب على سورية ! كان من الممكن أن لا يكون لي رأي كهذا لو كانت الحملة الأميركية - بدرجة أساس - داعية إلى الإطاحة بنظام بشار الأسد , وليس الحرب على الشعب السوري وتوجيه ضربة لسوريا .. نلك التي لن يجني منها السوريون سوى الدمار لبلدهم والموت والإذلال لشعبهم .
لقد فقد الإعلام العربي صدقيته , وعليه فإن الطريق طويلة أمامه كي يستعيد مكانته وموقعه الحقيقي في صفوف الإعلام الرصين والنزيه .. عليه أن يبذل جهوداً جبارةً , إن لم أقل الإعتذار من الشعب العربي على خطأ السياسة الإعلامية التي انتهجها , كتلك التي انساقت خلف السياسة العربية الخاطئة , التي تحكّم بها صبيان العرب , وليس حكماؤهم وآباؤهم .